نحن الآن في حضرة الحرف المتوهج بنبض الزمن الجميل، لنقف اليوم أمام سيرة شاعرٍ أحب الليل حتى صار راهبًا له الاسم الذي لا يزال يتردد في آذان العشاق.. الكلمة والإذاعة والتاريخ الفني المصري، رغم مرور الأعوام على رحيله سيظل باقيًا أيقونةً للإبداع في مصر والوطن العربي إنه «راهب الليل» طاهر أبوفاشا.
عرف الناس طاهر أبو فاشا بصوته عبر «ألف ليلة وليلة»، وبحروفه عبر دواوينه، وبأعماله التي صنعت جزءًا من ذاكرة الإعلام المصري، لم يكن شاعرًا فقط، بل كان مؤرخًا للوجدان الشعبي، وراويًا لحكايات الهوى والوجع، ومجددًا في دراما الإذاعة العربية.
ومن مدينة دمياط الهادئة خرج صوت شاعر الروح،«أبو فاشا» يحمل في طياته وجع البسطاء وحلم المثقف العصامي، فكان الخروج من ورشة الأحذية إلى بلاط الفن والثقافة، رحلة كفاح وشغف وعشق للكلمة، جعلت منه واحدًا من رموز جيلٍ حمل على عاتقه رسالة النهوض بالوعي الفني والأدبي.
وفي ذكرى رحيل أسطورة الإذاعة الخالدة، نُعيد قراءة سيرة رجلٍ عاش راهبًا في محراب الكلمة، وخلّد اسمه في تاريخنا الثقافي، القيثارة السماوية».. «طاهر أبو فاشا».
بين التعليم وصناعة الأحذية.. بداية الحكاية
وعن ميلاده ومسقط رأسه قال أبو فاشا: «ولدت في دمياط 22 ديسمبر 1908م وكانت طفولتي عادية، حيث نشأت في أسرة متوسطة، والدي كان يتاجر في الحبوب، وهي تجارة محدودة ومكسبها محدود، والتعليم أيضا في العشرينيات كان محدودًا فلم يكن هناك غير الكتاتيب وبعض المدارس الأولية والجامع أو معهد دمياط الديني في جامع المدبولي أو جامع البحر، أما المدرسة الميري والتي أسموها فيما بعد المدرسة الابتدائية فلم يكن يدخلها إلا عددًا محدودًا من أبناء القادرين، فقد كانت مصاريفها لا يقدر عليها إلا المتيسرين من الناس، فضلًا عن أن المراحل التالية من التعليم لم تكن متوافرة في المدينة».
ونشأ «أبو فاشا» في مدينة دمياط، وتخرج في كلية دار العلوم عام 1939م، وعمل منذ طفولته صانعا للأحذية داخل إحدى الورش وكان أول راتب يحصل عليه هو «ريال» في الأسبوع، أي ما يعادل 3 كيلو لحم أسبوعيا، إلا أن مشاجرة سياسية حامية بين الإسكافيين، أنصار سعد باشا زغلول، والمعماريين، أنصار عدلي يكن باشا، كانت نهاية علاقته بصناعة الأحذية.
شاعر الذي صنعه الكفاح
عمل «أبو فاشا» مدرسا فى مدرسة عنيبة ثم بالواحات، وذلك بعد تخرجه من كلية دار العلوم بالقاهرة، وقطع رحلة التدريس بالعودة للقاهرة ليعمل بالفن والصحافة، وراح يؤلف التمثيليات الفكاهية وغيرها، ويختلط ببعض الفرق الفنية التى تمرس، من خلال وسطها الفني الشعبي، بخفايا الفن، ولما زارت إحدى الفرق مدينة الزقازيق أقام لها إبراهيم دسوقي أباظة باشا حفل غداء، وألقى به الشاعر الشاب آنذاك قصيدة استرعت نظر الداعي، وتعرف أباظة عليه ورعاه، ودعاه للعودة إلى التعليم، فعاد مدرسًا بمدرسة دمياط الابتدائية الأميرية، ثم مدرسة المعلمين بسوهاج، وحين أُنشأت جماعة أدباء العروبة، انضم إليها.
مناصب حكومية.. وموهبة لا تعرف حدود المكاتب
عينه الوزير إبراهيم دسوقي أباظة سكرتيرا بوزارة الأوقاف، فلما نقل وزيرا للمواصلات نقله معه، وجعله وكيلا لمكتب بريد العباسية، ثم رئيسًا للمراجعة العامة، وانتهى به الأمر فى وظيفة بإدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة، رئيسا لقسم التأليف والنشر، وبقى فيها حتى أحيل للمعاش، فتفرغ للشعر والأعمال الأدبية والإذاعية، ووجد طريقه إلى العديد من النوادي والمجالس الأدبية، ومنها ندوة «القاياتي» التى كانت تضم جمهرة كبيرة من أعيان الأدباء، من أمثال حافظ إبراهيم وعبدالعزيز البشرى، وكامل كيلاني، وزكى مبارك.
راهب الليل.. شاعر الروح وقصيدته الخالدة
وكان لقب أبو فاشا هو «راهب الليل»، وهو عنوان ديوان شعري له كما كان له الكثير من الدواوين الرائعة مثل .. صوت.. «الشباب»، و«القيثارة السماوية»، و«الأشواك»، و«الليالي»، بالإضافة إلى ديوان «دموع لا تجف» والذي رثى فيه زوجته من خلال قصيدة مؤثرة كتبها لها.
أسطورة الأثير.. ألف ليلة وليلة
كما كتب أبو فاشا الكثير من الأعمال للإذاعة والتليفزيون ولعل العمل الذي أدخله التاريخ من أوسع أبوابه وحفره في الذاكرة هو«ألف ليلة وليلة»، ولم يكن هي عمله الإعلامي الوحيد، فقدم نحو 200 عمل للإذاعة والتليفزيون، منها«فوازير رمضان» التليفزيونية، وعدداً من المسلسلات الإذاعية ومنها «الأسرة السعيدة» و«ركن الريف» و«ألف يوم ويوم».
كتب «أبو فاشا»عمل إذاعي عن قصة ألفها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وهو طالب عنوانها «في سبيل الحرية».
رحيل وأثر باق في وجدان الأجيال
وفي مثل هذا اليوم، ترجّل فارس الأغنية والتمثيلية الإذاعية عن صهوة الإبداع،يث توفي في 12 مايو من عام 1989م، لكنه ترك لنا إرثًا من القصائد والحكايات التي تأبى أن تموت،وترك اسمه خالدًا في الحركة الثقافية والفنية وأثرًا لن يزول بين جماهير الإذاعة والتلفزيون المصري كمبدع متميز من زمن الفن الجميل.