على فراش صغير، وتحت شمس ساطعة، جلس أمل دنقل، في غرفة تحمل رقم الـ 8، أمسك قلمه وسطر كلماته الأخيرة، وهو ينازع الموت، أبى أن يترك الشعر، كما أبى الشعر أن يتركه، كان رفيق دربه في رحلة المرض الطويلة، التي امتدت لأربعة أعوام.
في تلك الغرفة، ولد آخر دواوينه، يحمل رقمها عنوانا "الغرفة 8"، حتى غربت الشمس، سقطت الكلمة، ودمعت الحروف، وتقلبت الصفحات في حزن وكمد، ترثي صاحبها أمل دنقل شاعر الجنوب.
"أوراق الغرفة 8"
"أوراق الغرفة 8" هو آخر دواوين أمل دنقل، والذي تحتفي الأوساط الثقافية اليوم بذكرى وفاته، حيث رحل في عام 1983م، وكتبه وهو على فراش المرض الذي ظل يقاومه طوال 4 سنوات، من أوائل شهر سبتمبر 1979 وحتى أواخر مايو 1983، حيث صدر الديوان.
ويضم الديوان قصائد أمل دنقل الأخيرة في حياته، من ضمنها: «ط ضد مَن»، و«زهور» وكانت الكتابة النهائية لكلتيهما في مايو 1982م، وقصيدة «لعبة النهاية» والتي كتبها في يونيو، و«السرير» في نوفمبر من نفس العام.
وأما القصائد الأخرى التي قاربت هذا التاريخ، كانت في عام 1981 ومنها، «الطيور»، و«الخيول»، ولكن لدقة أمل دنقل اللغوية وحرصه الدائم، ظل يبدل في صياغتها حتى استقر في الأخير على «الطيور» في شهر أكتوبر عام 1982م، و«الخيول» في أواخر ديسمبر من نفس العام.
يبدأ أمل دنقل ديوانه الغرفة 8، بقصيدة «الجنوبي» والتي كتبها في فبراير 1983م، لتكون الورقة الأولى في افتتاحية ديوانه والأخيرة في رحلته على الأرض، وبدأها بصورة تضع الضوء داخل نفسه الصغيرة، ويسترجع ذكرياته منها، قائلًا:
ديوان «أوراق الغرفة 8»:
هل أنا كنتُ طفلاً
أم أن الذي كانَ طفلاً سواي؟
هذه الصورُ العائليةُ..
كان أبي جالسًا، وأنا واقفٌ.. تتدلى يداي
رفسةٌ من فرس
تركتْ في جبيني شجًّا، وعلَّمت القلبً أن يحترس
أتذكرُ.. سالَ دمي
أتذكرُ
ماتَ أبي نازفًا
أتذكرُ..
هذا الطريقَ إلى قبرِهِ..
أتذكرُ
أختي الصغيرةَ ذاتِ الربيعين.
لا أتذكرُ حتى الطريق إلى قبرها
المُنْطَمِس
أَوَ كانَ الصبي الصغير أنا؟
أم تُرى كان غيري؟
وأختتم ديوان أوراق الغرفة 8 بقصيدة «محمود حسن إسماعيل» والتي كتبها أمل دنقل في الذكرى الرابعة لـ محمود حسن، في عام 1981، ولكنها كان ينقصها اللمسة الأخيرة، واستخلصت من آخر مسوداتها.