مكسيم جوركي، ذلك الاسم الذي يعني "المر"، لم يكن مجرد كاتب، بل ضمير حي لطبقة مسحوقة، ومقاتل بالكلمة في وجه القهر والظلم، عاش حياة أشبه برواية، وترك وراءه أدبًا يتوهج بالشغف والنضال والإنسانية.
مكسيم جوركي
ولد مكسيم جوركي في 28 أغسطس عام 1868، وسط أسرة بسيطة تحارب مشقة الحياة وتعافر من أجل لقمة العيش، لم يمهله القدر طويلًا في كنف الطفولة، إذ وجد نفسه يتيم الأب والأم وهو في التاسعة من عمره، لتتولى جدته تربيته.
كانت الجدة تمثل له الحضن والحكمة والبوصلة، ومع وفاتها غرق في حزنٍ ثقيلٍ، وصل به إلى حافة التفكير في الانتحار. لم تكن مجرد جدة، بل كانت أول من زرع في وجدانه حب الأدب، وأشعلت في روحه شرارة الشغف بالحكي والكتابة.
انحاز جوركي لفكر "المعاصرة"، مؤمنًا بانتماء روسيا للغرب، ليس جغرافيًا، بل ثقافيًا وفكريًا، في مواجهة تيار قومي عنصري كان يهيمن على الأوساط الروسية، ينكر أي صلة حضارية أو روحية بين الروس وبقية الشعوب الأوروبية، ويغرق في تقديس الهوية السلافية الأرثوذكسية الخالصة. ورغم أن هذا الصراع بلغ ذروته في منتصف القرن التاسع عشر حتى اغتيال القيصر إسكندر الثاني، فإن نيرانه بدأت تخمد تدريجيًا بعد ثورة 1881، لكنها خلفت وراءها ظلامًا كثيفًا، كان جوركي من القلائل الذين أشعلوا شمعة في هذا الظلام، وحاولوا بشجاعة أن يبددوه بالفكر والأدب.
ومع مطلع القرن العشرين، ظهرت موجة فكرية جديدة، تتقاطع وتتناقض مع ما سبق، تياران يتنازعان المشهد الثقافي: الأول أممي، يرى في الإنسان قيمة عُليا، ويدعو للوحدة العالمية، حاملًا شعار "نحن للعالم، لا لروسيا فقط"، وهو الاتجاه الذي انجذب إليه جوركي، لتقاطع رؤاه مع الماركسية، وتبنّيه لقيم العدالة والمساواة.
أما الاتجاه الثاني، فكان قوميًّا متعصبًا، يضع روسيا فوق كل اعتبار، ويعيد إنتاج نفس نغمة العرق والهوية ولكن بثوبٍ عصري، وفي قلب هذا الصراع، كتب جوركي عمله الأبرز والأكثر تأثيرًا: رواية "الأم"، التي صدرت عام 1907.
لم تكن "الأم" مجرد رواية، بل كانت بيانًا ثوريًا مؤثرًا، لخص فيه جوركي رؤيته للاشتراكية والماركسية، وانحيازه الصريح لطبقة العمال والمهمشين، البروليتاريا، في وجه القمع والظلم. كانت الرواية صرخة في وجه العبث والانقسام، بعد فشل الثورة الروسية الأولى، التي انتهت ببقاء القيصر، ومصادرة كل صوت حر. وقد وصفها المفكر سلامة موسى في كتابه "هؤلاء علموني" بأنها: "إرشاد وإلهام للشباب الثائرين في روسيا حتى لا يفقدوا الأمل في تحقيق حلمهم بالحرية والعدالة".
عانى جوركي من داء السُّل لأكثر من أربعين عامًا، قضى معظمها في جنوب إيطاليا هربًا من البرد والمرض، لكنه لم يتوقف عن النضال، لا بالقلم ولا بالموقف. وفيما كانت علاقته قوية بـ"لينين"، حتى أنه كتب مذكراته عنه تحت عنوان "الإنسان الكبير"، فإن علاقته بـ"ستالين" كانت على النقيض تمامًا، خاصة بعد اقترابه من التيار التروتسكي المعارض. هذه العلاقة المتوترة جعلت ستالين يحتجزه في قصرٍ فاخر، عند عودته لروسيا عام 1933، قصر لم يكن سوى سجن ذهبي، يخفي خلف جدرانه رقابة وتهديدات. توفي ابن جوركي في 1935، ثم لحق به جوركي بعد عام، في 18 يونيو 1936، وسط شكوك كثيرة بأن ستالين قد يكون وراء وفاتهما، خاصة بعد تردّد أنباء عن رفضه كتابة رواية تمجّد الزعيم السوفيتي.
ورغم ترشحه لجائزة نوبل خمس مرات، لم يفز بها، وكانت أقرب فرصة له عام 1933، قبل أن تذهب الجائزة إلى الكاتب الروسي إيفان بونين.