لم تكن مصر مجرد دولة، وإنما حضارة عريقة متقدمة لأمة إنسانية بأكملها، ينظر إليها باعتبارها الدولة الوطنية الأولى في التاريخ، ذات الحكومة المركزية الموحدة، والنظام الاجتماعي والثقافي المتكامل، والنموذجً الرائد ليس فقط في تنظيم الدولة والإدارة والعمارة، وإنما فى الفنون أيضاً. ووسط هذا الكيان المتماسك، تألقت الموسيقى، كفن راقٍ ومقدس، رافق المصريين في دينهم، واحتفالاتهم الملكية والانتصارات، وكذا الطقوس الجنائزية، ومراسم حياتهم الاجتماعية اليومية. وتعتبر الموسيقى أحد الأدلة الدامغة على مدى تطور هذه الحضارة وعمق إنسانيتها، فقد كانت أكثر من مجرد وسيلة ترفيه، بل مكون لتشكيل الوعى الجمعى، وتثبيت القيم الوطنية، فهى لغة تواصل روحي، وأداة للتنظيم الاجتماعي، ومكوناً أصيلاً في نسيج الدولة الوطنية الأولى، باعتبارها أداة توحيد وبناء وطني، تُستخدم لحماية الدولة وتعزيز هويتها في أوقات الاستقرار والأزمات، وشاهداً حياً على رقي المصريين القدماء وتقدمهم الحضاري والفكري، وكذا تقدير وأهميىة الموسيقى كفن هادف فى الوقت الحاضر.
فمنذ قيام الدولة المصرية الموحدة حوالي عام 3100 قبل الميلاد، ارتبطت الموسيقى ارتباطاً وثيقاً بمختلف جوانب الحياة وفى مختلف الطبقات، من المعابد إلى الحقول، ومن القصور الملكية إلى البيوت البسيطة، وكان المصريون القدماء يعتبرون الموسيقى وسيلة للتقرب إلى الآلهة، وتعبيراً عن الفرح، وأداة لتنظيم العمل، ووسيلة للشفاء والعلاج النفسي.
كما كانت مكوناً رئيساً في الطقوس الدينية المصرية، وخاصة في معابد الإلهة "حتحور" إلهة الحب والجمال والموسيقى، وكان للكهنة والكاهنات فرق موسيقية تؤدي الأناشيد والترانيم خلال الشعائر، وامتد توظيف الموسيقى فى كافة مناحى الحياة، حتى نجدها جزءاً أساسياً من طقوس الجنازات، حيث تؤدى الأناشيد الحزينة لتكريم الموتى ومساعدتهم في رحلتهم إلى حياة البعث. كما تشير بعض الأدلة الأثرية إلى وجود نوع من التعليم الموسيقي المنظم، خاصة في المعابد، حيث يتدرب الموسيقيون على الأداء الدقيق للأناشيد المقدسة فيما يشبه الأكاديميات الموسيقية الدينية، التى يتدرب فيها العازفون على الأناشيد الرسمية.
ولم تقتصر الموسيقى على الطبقة الأرستقراطية أو رجال الدين كما سبق وأشرنا، بل كانت جزءاً من حياة العامة من الناس، كما أظهرتها الجداريات في المقابر لتعبر عن مشاهد لموسيقيين ومغنيات وعازفين في الحقول والبيوت والمناسبات الاجتماعية مثل الأعراس والولائم. وبطبيعة الحال حين نتحدث عن تلك الدولة الوطنية وتقديرها للمرأة فله شواهد عديدة، حتى فى مجال الموسيقى، فقد لعبت النساء دوراً بارزاً في الحياة الموسيقية المصرية، سواء كمغنيات أو عازفات أو راقصات، وغالبًا ما كانت النساء يشغلن مواقع مرموقة كموسيقيات في المعابد، كما يحتللن مكانة متميزة كموسيقيات، فكثيراً ما نقش لقب "المغنية الكبرى للإله آمون" على جدران المعابد والمقابر، وشغلن هذا المنصب سيدات من العائلة الملكية أو الطبقة النبيلة. كما يعود الفضل فى التعرف على أول أوركسترا نسائية عرفها العالم، تلك التى نشأت فى الحضارة المصرية القديمة.
والموسيقى فى الواقع كانت جزءاً من بنية الدولة في مصر القديمة وأداة للتماسك الوطني منذ عهد الملك مينا موحد القطرين، وتم استخدامها فى المعابد كوسيلة ترسيخ للسلطة الإلهية، وبذلك أسهمت في تأصيل الولاء للدولة ومعتقداتها، في طقوس التجنيد والاحتفالات العسكرية، كما تسهم الأناشيد فى تمجيد الفرعون باعتباره ابن الإله وحامي البلاد، مما ساعد على ترسيخ هيبة الدولة.
ومع تطور الدولة المصرية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين، برزت الموسيقى كأداة تثقيف ووعي قومي، ففى عهد محمد على باشا حاكم مصر اهتم بالبلاد وسعى لتقدمها، شيد المدارس الفنية، والفرق الموسيقية العسكرية على النمط الأوروبي، وكانت محطة انطلاق قوية شهدت توسعاً كبيراً فى كافة المجالات، وبنى على إثرها فيما بعد كثير من المعاهد والكليات الموسيقية. أما ثورة 1919، فكانت الأغنيات الوطنية لسيد درويش مثل "قوم يا مصري" تحرك الجماهير وتحفزهم على مقاومة الاحتلال وتحرير البلاد من براثن الاستعمار، وربط الموسيقى بقضايا الوطن والناس. وعند بناء الدولة الوطنية الحديثة بعد ثورة يوليو 1952، أصبحت أغنيات مثل وطني الأكبر، إحنا الشعب، صورة، والله زمان يا سلاحى وغيرها هى صحوة الضمير الوطنى وتماسك الأمة.
ومع دخول مصر في أزمات الهوية والانقسام السياسي بعد أحداث عام 2011، لعبت الموسيقى دوراً حاسماً في إعادة توجيه الوعي الشعبي نحو الدولة الوطنية، لا سيما في مواجهة جماعات سياسية حاولت تقويض مؤسسات الدولة لحساب مشروع أيديولوجي عابر للوطنية. وقبل انطلاق ثورة تصحيح المسار التى انطلقت فى ربوع مصر من أقصاها إلى أقصاها فى 30 يونيو عام 2013، ظهرت أغنيات تعبر عن القلق الشعبي وتدعو لاستعادة قوة الدولة وتماسك أركانها، وتعيد الثقة فى مؤسسات الدولة المعنية، وفى القوات المسلحة المصرية الحصن الحصين للدولة المصرية، كان منها تسلم الأيادى، مصر أولاً، يا بلادى، تسلم إيدينك.
وخلال ثورة 30 يونيو، أصبحت الموسيقى جزءاً من التعبئة السلمية، فكانت الأغنيات الوطنية تبث في كل الميادين، بمشاركة الفنانين أنفسهم فى الحراك الشعبى، وباتت الأغنية منبراً تعبوياً وسلميًا لدعم الإرادة الشعبية، وظلت الموسيقى تلعب دورها الوطنى في استعادة صورة الدولة القوية والموحدة، ببث أغنيات تدعم القوات المسلحة والشرطة كرموز للاستقرار، والتركيز على نشر ثقافة الانتماء والانضباط والمواطنة من خلال الأغنيات باعتبارها الوسيلة الأسرع انتشاراً والأسهل فى الترديد والتواتر بين الأجيال المتباينة.
ولأن الموسيقى هى خط الدفاع الأول عن هوية مصر الوطنية، فنجدها تتجلى على مدار التاريخ من المعابد الفرعونية بنقوشها الجدارية وبردياتها المقدسة فى الحضارة المصرية القديمة إلى الميادين المتناثرة فى ربوع المحروسة تعج بالملايين في 30 يونيو، فقد ظلت الموسيقى في مصر صوت الشعب وضمير الوطن. كما حفظت وحدة الدولة الوطنية، وبثت في المصريين روح المقاومة والتماسك، وجعلت من الفن وسيلة لحماية الهوية الوطنية في وجه الفوضى ومحاولات زعزغة الاستقرار واللا دولة. فيظهر جليًا أن الموسيقى لم تكن فناً هامشياً في الدولة الوطنية الأولى، بل كانت أداة تعبير حضاري وروحي استخدمها المصريون القدماء لصياغة علاقتهم مع العالم، والآلهة، والحياة. إن هذا التراث الموسيقي العريق يظل شاهداً على ريادة مصر كأول دولة تبني حضارة متكاملة، جسدت الموسيقى فيها جوهراً مقدساً وجمالياً في آنٍ واحد لنبرهن أن مصر الدولة الوطنية الأولى، والتى قدمت للعالم ليس فقط نموذجًا للحكم المبكر، بل أيضًا النموذجً الراقى والهادف لفن يقاوم وينتصر.
مع دخول مصر في أزمات الهوية والانقسام السياسي بعد أحداث عام 2011، لعبت الموسيقى دوراً حاسماً في إعادة توجيه الوعي الشعبي نحو الدولة الوطنية
ظلت الموسيقى في مصر صوت الشعب وضمير الوطن، حفظت وحدة الدولة الوطنية، وبثت في الشعب روح المقاومة والتماسك، وجعلت من الفن وسيلة لحماية الهوية الوطنية