الثلاثاء 29 يوليو 2025

مقالات

الدولة الوطنية في الشعر والأدب والفن

  • 28-6-2025 | 15:54
طباعة

كثيرا ما تعرض الأدباء والشعراء والفنانون ـ بوجه عام ـ في شعرهم وأدبهم وفنهم للتعبير عن حب الوطن وتقديس مكانته، وتكريس مفهوم الوطنية التي هي تعبير عن الولاء والوفاء والانتماء. ولا يقتصر هذا المنحى في زمننا الحديث وآدابنا وفنوننا المعاصرة فحسب، ولكن هذا التوجه الوطني متجذر في مصر ـ بشكل خاص ـ منذ القدم، وليس هذا غريبا على دولة قديمة عريقة مثل مصر التي عُرفت بحدودها الحالية منذ فجر التاريخ.

أحمد شوقي

عباس محمود العقاد

طه حسين

"سنوحي" رمز الوطنية وحب الديار:

وقصة سنوحي المصري القديم تشهد على هذا وتؤكده. فمن هو سنوحي؟ وما هي قصته؟

عاش سنوحى فى الفترة من 1991 إلى 1924 ق. م. في الدولة الوسطى، زمن الأسرة الثانية عشرة، أيام الملكين أمنمحات الأول وسنوسرت الأول. وهي قصة تعبر عن حب المصري لوطنه أيما تعبير. فمهما بَعُد المصري عن بلده تحت وطأة ظروف معينة فإنه سرعان ما يحن لتراب وطنه، مهما كانت مُغريات الغربة، من عيش رغيد، وترحيب بالوافد الجديد، إلا أن قلبه يظل مُعلقا بوطنه، حتى يعود إليه في أول فرصة تسنح له.

"سنوحى" المصرية سبقت أختها الفنلندية:

ولطرافة هذه القصة التاريخية الحقيقية وقيمتها الإنسانية، فقد استوحاها مؤلفان أحدهما مصري والآخر فنلندي، أما المصري فهو الجغرافي الكبير، والأديب والمترجم الدكتور محمد عوض محمد (1895 ـ 1972)، وقد ظهرت قصته "سنوحى" في ديسمبر سنة 1943 ضمن سلسلة "اقرأ" الشهيرة التي تصدرها دار المعارف بالعدد رقم 12.

أما الثاني فهو الكاتب الفنلندى مايكا والتارى Mika Toimi Waltari (1908 ـ 1979) الذي كتب روايته تحت عنوان "سنوحى المصري" Sinuhe The Egyptian‬‏، وظهرت طبعتها الأولى في اللغة الفنلندية عام 1945، ثم ترجمت بعد ذلك إلى مختلف لغات العالم الحية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية، وغيرها. وقد ترجمت إلى العربية مرتين، أولهما ترجمة مختصرة نسبيا، وقد نشرتها دار لاباتري بالقاهرة، ولكنها أغفلت ذكر اسم مترجمها. أما الترجمة الأمينة الثانية فكانت بقلم المهندس حامد القصبي وكيل وزارة الأشغال الأسبق، واطلع عليها عميد الأدب الدكتور طه حسين (1889- 1973) فأعجب بها، وأثنى عليها، ووضع لها مقدمة في أربع صفحات.

الوطن في ديوان الشعر العربي:

ومن أشهر ما أثر في شعرنا العربي القديم في حب الوطن قصيدة الشاعر العباسي ابن الرومي ـ التي درسناها صغارا في المرحلة الإعدادية ـ وهي من أصدق ما قيل في هذا الصدد على الرغم من جذوره الأجنبية، لكنه نشأ وترعرع في محيطنا العربي، فأصبح له وطنا يعتز به، ويُضَمِّنَه أبلغ المعاني في حب الوطن، والتعلق به، وفي هذا يقول ابن الرومي:

وَلِــي وَطــــــَـنٌ آلَيْتُ أَلاَّ أَبِيعَــه   وَأَلاَّ أَرَى غَيْرِي لَهُ الدَّهْرَ مَالِكا

عَهِدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً  كنِعْمَةِ قومٍ أصبحـوا في ظِلالكا

فقـــــــــد ألِفـَـتْهُ النفسُ حـــــتَّى كأنه  لها جســــــدٌ إنْ بانَ غودِرْتُ هــــــالكا

وحبَّبَ أوطانَ الرجــالِ إليهمُ   مآربُ قضَّاها الشــبابُ هنالكا

 إذا ذَكَــــروا أوطـــــانَهُم ذكـَّــــرَتْهمُ     عُهــــــودَ الصِّـــــبا فيهـــا فحنّوا لذلكا

وطنية أحمد شوقي وحبه الجارف لمصر

أما أحمد شوقي شاعر العصر الحديث كما يسميه أستاذنا الدكتور شوقي ضيف، وأمير الشعراء، كما أجمع على ذلك جهابذة شعراء العربية في العصر الحديث، فيعبر عن هذا أصدق تعبير وأبلغه فيقول:

وطني لو شغلت بالخلد عنه لنازعتني إليه في الخلد نفسي.

لقد هام شوقي بمصر وأحبها واستعذب الشقاء في حبها حتى إن شعره الوطني هذا قد تسبب في نفيه خارج البلاد في إسبانيا لمدة خمس سنوات؛ لأن المحتلين أيقنوا خطورة شعره في التأليب عليهم، والتنفير منهم، حيث إن شعره كان يوقظ الغفلى، ويشدو به الصغار والكبار.

وإن أنسى لا أنسى رائعته التي صاغ كلماتها سنة 1904 في حب مصر، والتي يقول في جزء منها:

أحبك مصر من أعماق قلبي وحـــــــــــــبك في صميم القلب نام

سيجمعني بك التاريخ يومـا

إذا ظهــــــــــر الكـــرام على اللئام

لأجلك رحت بالدنيا شـقيا

أصدُّ الوجـه والدنيا أمـــــــــامي

وأنظـــر جــنة جمعت ذئابا

فيصرفني الإباء عــــن الزحـــام

وهبتك غير هيَّاب يراعا

أشــــــد علـى العـدو مـن الحُســام

وكما أحب شوقي مصر وعشقها، فقد اهتم أيضا بتاريخها فقرأه، وأعجب به، وأكبَرَ ريادتها في المجالات المختلفة، ومن ثم فقد احتفى بكل هذا، وأشاد به في شعره، فهو القائل في نبرة يجللها الصدق، ويغلفها التعبير الجميل، فيقول:

وأنا المحتفي بتاريخ مصــــــر

من يصن مجد قومه صان عرضا

وهو القائل أيضا:

فيا وطـــن بأنفســــنا نقيه

وبالدنيا العـريضــــة نفتديه

وحينما ماتت أمه وهو بالمنفى رثاها بقصيدة حارة، قرن فيها بين أمه نسبا ودما وأمه الكبيرة مصر، فقلبه مقسم بينهما في الهوى، وإنه وهو في بلاد الأندلس الجميلة التي تشبه جنات عدن، ومع هذا لم يجد لأنهارها طعما بجوار ماء النيل (وهو المُضْمَرُ الواضح في هذا السياق)، حيث يقول شوقي:

إِلى اللَهِ أَشكو مِن عَوادي النَوى سَهما أَصابَ سُوَيداءَ الفُؤادِ وَما أَصمى

نزلت رُبـَــى الـدنيا وجنات عَدْنهـا فما وجدت نفسي لأنهـــارها طعما

فما برحت مصــــر في خاطري ساعة ولا أنتِ في ذي الدار زايلتِ لي همَّـا

إذا جـــنني الليل اهتززت إليكمـــــا فجُنحا إلى سُعدى وجنحا إلى سَلْمَى

وكما احتفى شوقي في شعره بوطنه وتغنى بمفاخره وأشاد بتاريخه، صنع شيئا قريبا من هذا في نثره، ففي كتابه "أسواق الذهب" قطعة بليغة حول "الوطن" يقول في جزء منها: "الوطن موضع الميلاد، ومجمع أوطار الفؤاد، ومضجع الآباء والأجداد، الدنيا الصغرى، وعتبة الدار الأخرى، الموروث الوارث .... أول هواء حرك المروحتين (الرئتين)، وأول تراب مس الراحتين (الكفين)، وشعاع شمس اغترق (أىْ: شغلها عن النظر إلى غيره) العين؛ مجرى الصبا وملعبه، وعرس الشباب وموكبه".

وهو القائل أيضا في مقدمة ديوانه الشوقيات: "إنها "مصر" بلادي، وهي منشأي ومهادي، ومقبرة أجدادي، ولي بها أبوان، ولي في ثراها أب وجدان، وببعض هذا تُحَبَّب إلى الرجال الأوطان".

شعراء آخرون:

وهذا أيضا صنوه ومجايله شاعر النيل حافظ إبراهيم يهيم كذلك بحب مصر ويعبر عن وطنيته تلك أصدق تعبير حين يقول:

أيجمـــــل بالأديب أديب مصــر

بكاءُ الطفــــل أرهقه الفطـام ؟

ويصرفه الهوى عن ذكر مصر ومـصـرُ في يد الباغي تضـام

لعمـرك ما أرقت لغير مـصـر ومـا لي دونها أمــــــــلٌ يُرام

ولحافظ قصيدة وطنية طويلة رائعة يقول في جزء منها:

كَـم ذا يُكابِدُ عــاشِـــقٌ وَيُلاقي

فـي حُــبِّ مِصــرَ كَثيرَةِ العُشّــاقِ

إِنّي لَأَحـــمِلُ في هَواكِ  صَبابَةً

يا مِصرُ قَد خَرَجَت عَنِ الأَطواقِ

لَهفي عَلَيكِ مَتى أَراكِ طَليقَةً يَحمي كَريمَ حِماكِ شَعبٌ راقي

كَلِفٌ بِمَحمودِ الخِـــلالِ  مُتَيَّمٌ بِالبَذلِ بَينَ يَدَيــكِ وَالإِنفـــــــاقِ

إِنّي لَتُطرِبُني  الخِلالُ   كَريمَةً طَرَبَ الغَــــريبِ  بِأَوبَةٍ  وَتَلاقي

وَتَهُزُّني ذِكرى المُروءَةِ وَالنَدى بَينَ  الشَـــمائِلِ  هِــــزَّةَ المُشتاقِ

أما مصطفى صادق الرافعي فيقول في حب مصر:

بلادي هواها في لساني وفي دمي يمجـدها قلبي ويدعو لها فمي

ولا خير فيمن لا يحــب بلاده

ولا في حديث الحب إلا المتيم

وهذا محمود رمزي نظيم الذي يري في حبه لوطنه ما يسمو به، ويستمد من هذا الحب آماله وأمانيه، وسروره، ونورا يهديه:

أحبُّ مواطن الدنيا لنفسـي وأشــرفها وأخصــبها بلادي

أقدس أرضها عن كل أرض

وعن كل المـواطن والبلاد

وأرفع شعبها عن كل شعب

وعـن رهـط المـلائك والعـباد

ولولا حبهـا يسـمو بنفسـي

ويزجيهــا إلى ســـبل الســداد

لما ابتسمت ثغور للأمــاني

ولا للحـب فـي روض الأمـاني

وحتى شاعر القطرين خليل مطران، الذي احتضنته مصر فأحبها، وتغنى بسابغ فضلها، ومن هذا قوله في شعر بليغ:

يا مصر أنت الأهل والسكن

وحمىً على الأرواح مؤتمن

حبي كعهــدك في نزاهته

والحـب حيث القلب مـرتهـن

أما العقاد فحينما قامت ثورة يوليو 1952 فقد أيدها، شأن معظم المثقفين الأحرار، وتوقعوا منها خيرا كثير لمصر والمنطقة العربية، مثل الدكتور طه حسين والأستاذ توفيق الحكيم والأستاذ عبد الرحمن الرافعى.

وقد استقبلها العقاد بقصيدة أشاد فيها بمصر سليلة الخلود، وصاحبة المجد التليد، ثم نعى فيها على أولئك الذين خانوها ومن اتبعهم من حاشيتهم، فلم يرعوا لها حقها في الحياة الحرة الكريمة، وحيا فيها الشباب الثائر، الذي اهتم بسائر بلاد القطر المصري، لاسيما صعيد مصر الذي وقع في دائرة النسيان في العصر الملكي، حتى اعتبر توقيت هذا الاهتمام بالصعيد يوم عيد، وفي هذا يقول العقاد:

يا مصر يا بنت الخلـود

يا معـقـل المــجد التليد

أين الذين جـزوك جـا

زية الخيانة والكنــود

من كل مســخ هـازل

في زي جــبار عنيـد

ولـى وولـى صـحــبه

لا غـائبين ولا شـــهود

من كل مـغلوب على

كمـد ومـنبوذ شـــريد

يا صحبة التوفيق وفــــقتم إلى النهج الســديد

حــييتم النيــــــل المبارك واحتفيتم بالصعـيد

عيد له في ذمـة التـــاريخ توفيـق حـمــيد

عـــيد الأوائل والأواخر والخمــائل والورود

في كل عام تحتفــــون بمولد اليوم الجــديد

لا راغـــم فيه يُســا

دُ وكل من فيه يســـود

أما الشاعر القاهري أمين عزت الهجين (1902 ـ 1965) فقد كتب قصيدة بالعامية المصرية التي ترقى إلى الفصحى السهلة، لحنها وشدى بها موسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب بصوته العذب الرخيم، وموسيقاه الشجية المعبرة، تقول أبياتها:

حـب الوطـن فــــــرض عليــا

أفـديـــه بروحـــــــى وعـينيــا

ليه بــس نـــاح الـبلـبل ليــــه

فكـــرنـى بالوطــــن الـغــالـي

قضـيت أعــز شـــــبابـي فيه

وفـيــه حــبايبى وعـــــزالــي

وإن شــاف هوان وللا أســيه

أفــديــه بـروحــــي وعــينيا

يا مصر انا رضـعت هـــواكي

من الصبا وجــري ف دمـــي

أحــــــب نيلك وســــمــــاكـي

انتي أبوبيـــــا .. انـتي أمــــي

أرواحـــنا و شـــبابنا فـــداكـي

وفــداكي روحـــــي وعــــينيا

مليش يا مصر حـــبيب غيرك

أمـيل إلـيه فـــى الدنيــا دي

وأنا اللى متربى فـــي خــيرك

وازاي راح انسى هوى بلادي

ونيلك الحـــــــلو الصـــــافي

أفـــديــه بروحــى وعـــــينيا

حــب الوطــن فـرض عــليا

ومين يلومني في حبه دا مين

دا ورده أحــلا فــي عـــينيا

من كل ورد تشـــوفه العـين

يا يعيش كريم يا يموت كريم

هذه هي مصر الدولة الوطنية ذات التاريخ العريق والمجد التليد، التي أحبها كل من عرفها، وتنسم هواءها، ومشى على أديم ترابها، وشرب من زلال نيلها، واقتات من زرعها وثمرها، فما بالكم بمواطنيها من أهلها!!

مصر الدولة الوطنية ذات التاريخ العريق والمجد التليد.. أحبها كل من عرفها، وتنسم هواءها، ومشى على أديم ترابها، وشرب من زلال نيلها

محمد عوض محمد

محمد عبد الوهاب

توفيق الحكيم

ألهمت قصة سنوحي المصري الأدباء لطرافتها وقيمتها الإنسانية وهي تعبر عن حب المصرى لوطنه وحنينه إليه مهما بَعُد عنه تحت وطأة الظروف

عبد الرحمن الرافعى

مصطفى صادق الرافعي

مايكا والتارى

أمين عزت الهجين

تعرض الأدباء والشعراء والفنانون في شعرهم وأدبهم وفنهم لحب الوطن تعبيرا عن تقديس مكانته، وتكريس مفهوم الوطنية والولاء والوفاء والانتماء

أخبار الساعة

الاكثر قراءة