أكدت عالمة الوراثة البشرية بالمركز القومي للبحوث الدكتورة نجوى عبد المجيد، أن الملوثات البيئية، وعلى رأسها الميكروبلاستيك، تعد من العوامل المؤثرة في ارتفاع معدلات الإصابة بعدد من الأمراض العصبية، لاسيما طيف التوحد، مشيرة إلى أن التوحد يصنف كمرض وراثي بيئي تتداخل فيه العوامل الجينية مع المؤثرات البيئية بشكل كبير.
وأوضحت أن الدراسات أظهرت أن التعرض للمواد الكيميائية المسببة لاختلال الغدد الصماء، مثل البيسفينول، وهو مركب كيميائي صناعي يستخدم منذ خمسينيات القرن الماضي في تصنيع بعض أنواع البلاستيك والراتنجات، قد يؤدي إلى تعطيل الوظائف المناعية الطبيعية في الدماغ، ما يتسبب في حدوث التهاب عصبي مزمن أو مفرط، الأمر الذي قد يسهم في نشوء الاضطرابات العصبية، بما في ذلك اضطراب طيف التوحد.
وسلطت الضوء على أهمية تقليل التعرض لهذه المواد الكيميائية الضارة، وتبني سياسات وتشريعات تقيد استخدامها، حماية للصحة العامة.
جاء ذلك خلال مشاركتها في الصالون العلمي الخامس الذي نظمه المركز القومي للبحوث حول الأمراض الوراثية؛ حيث أوضحت أن الميكروبلاستيك عبارة عن جزيئات دقيقة للغاية من البلاستيك يقل حجمها عن 5 مليمترات، وقد تتكون نتيجة لتحلل قطع بلاستيكية أكبر بفعل العوامل البيئية مثل الأكياس والزجاجات، أو تصنع بهذا الحجم الصغير عمدا لاستخدامها في بعض المنتجات كمواد التجميل والمنظفات.
وأضافت أن خطورة هذه الجزيئات تكمن في انتشارها الواسع في البيئات المختلفة، فقد تم رصدها في البحار والأنهار، وتبتلعها الكائنات البحرية، كما اكتشفت في مياه الشرب نتيجة لتسربها من العبوات البلاستيكية أو من أنظمة التوزيع، فضلا عن وجودها في بعض أنواع الأطعمة مثل الأسماك والملح البحري.
كما أشارت إلى أن الأمر لا يقتصر على ذلك، إذ تم اكتشاف الميكروبلاستيك أيضا في الهواء الذي نستنشقه، وفي التربة الزراعية، ما يجعله مكونًا غير مرئي حاضرًا في تفاصيل حياتنا اليومية، ويشكل مصدرا لتأثيرات بيئية وصحية مقلقة.
وشددت الدكتورة نجوى عبد المجيد على أن التلوث البيئي لا يسبب التوحد بشكل مباشر، لكنه يعزز من احتمالية ظهور أعراضه لدى الأطفال الذين لديهم استعداد وراثي للإصابة، خاصة في ظل الاستخدام المكثف والمتزايد للبلاستيك في الحياة اليومية.
وأوضحت أن أعراض التوحد تبدأ غالبا في الظهور مع نهاية العام الثاني وبداية العام الثالث من عمر الطفل، وأن الاكتشاف المبكر للحالة يسهم بشكل كبير في تحسين فرص التدخل العلاجي والتكيف السلوكي.
ودعت الأمهات إلى ضرورة مراقبة سلوك الطفل منذ ولادته والانتباه إلى أي تصرفات غير معتادة، خاصة في حالة وجود قرابة بين الزوجين، مشددة على أهمية الحد من زواج الأقارب، وإجراء فحوص ما قبل الزواج، بالإضافة إلى الفحوص الوراثية أثناء الحمل، وتطبيق برامج المسح الشامل للمواليد، بما يسهم في الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية وتحسين صحة الأجيال القادمة.
وخلال الصالون، كشفت رئيس قسم الوراثة الإكلينيكية بالمركز الدكتورة غادة الحسيني، عن أن صغر حجم الرأس– وهو مرض عصبي تكون فيه رأس الطفل أصغر من المعدل الطبيعي – ليس مرضا واحدا بحد ذاته، بل يمثل مجموعة كبيرة ومتزايدة من الأمراض ذات الأسباب الوراثية أو البيئية.
وأوضحت أنه من الناحية الوراثية، قد يكون ناجمًا عن اضطرابات في الشريط الوراثي (الكروموسومات)، أو متلازمات وراثية تنتقل بالوراثة المتنحية أو السائدة أو المرتبطة بالكروموسوم X، أو نتيجة لخلل في وظائف الميتوكوندريا، أما من حيث الأسباب البيئية (غير الوراثية)، فقد يحدث صغر الرأس بسبب نقص الأكسجين أثناء الحمل أو الولادة، أو نتيجة لتعرض الجنين للمشروبات الكحولية أو المواد المخدرة أو الإشعاعات، أو نتيجة للإصابة بعدوى فيروسية داخل الرحم.
وأكدت أن تحديد السبب يعد أمرا بالغ الأهمية، إذ أن كثيرا من هذه المتلازمات تنتقل بالوراثة المتنحية، مما يعني إمكانية تكرار الحالة بنسبة تصل إلى 25% في كل حمل جديد، وهو ما يستوجب تقديم المشورة الوراثية الدقيقة للأسر.
وقالت "لا يوجد حتى الآن علاج محدد لصغر الرأس أو العيوب الخلقية المرتبطة بالمخ، لكن التدخل المبكر من خلال برامج تنمية المهارات والعلاج الطبيعي، إلى جانب العلاجات الداعمة، يمكن أن يسهم في تحسين جودة حياة الطفل وتطوير قدراته الإدراكية والحركية".
وأضافت أن تشخيص الحالة بدقة ووضع خطة علاجية شاملة يعتمد على تعاون عدة تخصصات طبية، ويعد الدعم النفسي والإرشاد الأسري عنصرا محوريا في رحلة الرعاية.
من جانبها، ألقت أستاذ الوراثة البيوكيميائية بالمركز الدكتورة إكرام فطين، الضوء على وحدة العلاج بالإنزيمات التعويضية للأمراض النادرة بالمركز، والتي نجحت حتى الآن في علاج نحو 60 حالة من مرض MPS، مؤكدة أن هناك فريقا بحثيا وطبيًا متكاملا داخل المركز يتولى علاج المرضى وتقديم الرعاية المتخصصة لهم، مشددة على أهمية رفع وعي الأمهات لمتابعة حركة الطفل وسلوكياته من لحظة ولادته.
كما طالبت كل من الدكتورة مها سعد زكي، أستاذ الوراثة الإكلينيكية، والدكتورة غادة قماح، أستاذ الوراثة الإكلينيكية، بضرورة إجراء مسح جيني شامل قبل الزواج للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية، والتوعية بمخاطر زواج الأقارب، إلى جانب شرح التأثيرات النفسية والصحية والاقتصادية لهذه الأمراض على الأسر والمجتمع.
ويأتي هذا الصالون العلمي في إطار المبادرة الرئاسية للكشف عن الأمراض الوراثية للأطفال حديثي الولادة، وهي مبادرة وطنية تهدف إلى الاكتشاف المبكر لـ 19 مرضا وراثيا منذ الأيام الأولى بعد الولادة، بما يسهم في تحسين جودة حياة الأطفال وتوفير الرعاية الطبية المناسبة في الوقت المناسب.
وعقد الصالون العلمي تحت رعاية وحضور الدكتور ممدوح معوض، رئيس المركز القومي للبحوث، وبإشراف الإدارة المركزية لشؤون الرئاسة ومركز المعلومات بالمركز، وتنظيم فريق من إدارة النشر.