إن الوطن ليس مجرد رقعة جغرافية مرسومة على خريطة ولا مجرد حدود سياسية تفصل بين دولة وأخرى بل هو كيان معنوي عميق الجذور في قلب كل إنسان يحمل بين جنباته الذكريات والتاريخ والأحلام والمستقبل وهو الهوية التي تتشكل فيها شخصيتنا والملاذ الآمن الذي نلوذ به وقت الشدائد ففي الوطن نولد وفيه نكبر وبه نحيا وعلى أرضه نخط أولى خطواتنا ونتعلم أولى كلماتنا ونختبر فيه معاني الانتماء والعطاء والمسئولية وهو البيت الكبير الذي يحتوينا بكل ما نحن عليه بأفراحنا وأحزاننا بنجاحاتنا وإخفاقاتنا بحكايات الأجداد وطموحات الأبناء.
إن الوطن هو حضن الأم حين تضيق الدنيا وهو اليد التي تساندنا حين تعصف بنا الرياح وهو الأرض التي نرويها بعرقنا ونصونها بدمائنا ومهما تباعدت بنا الطرق أو فرقتنا المسافات يظل الوطن يسكننا في لغتنا ولهجتنا في وجوه ناسه وفي طقوس أعياده في رائحة الخبز على ناصية الطريق في نداء المؤذن وقت الغروب وفي أغاني الجدات التي ما زالت تهمس في الذاكرة إنه الحكاية التي لا تنتهي والموطن الذي لا يستبدل والحق الذي لا يساوم عليه ولأن الوطن بهذا القدر من القيمة والمكانة فإن الحفاظ عليه ليس مجرد واجب قانوني أو أخلاقي بل هو أمانة في أعناقنا ومسئولية تتطلب وعياً ويقظة دائمة والحفاظ على الوطن يعني حماية تاريخه من التشويه وأرضه من التعدي ووحدته من التمزق ومقدراته من النهب وهويته من الذوبان وهو لا يتحقق بالشعارات أو بالكلمات الرنانة بل بالفعل الصادق والعمل المتواصل والمشاركة الواعية في بنائه وتطويره والدفاع عنه في وجه كل من يحاول النيل من أمنه واستقراره.
إن الوطن لا ينهض إلا بسواعد أبنائه ولا يصان إلا بتكاتفهم ولا يخلد إلا بإخلاصهم وتضحياتهم ومن لا وطن له لا جذور له ولا حاضر ولا مستقبل ولذلك فإن أعظم ما يمكن أن نقدمه لوطننا هو أن نحبه بصدق ونعمل من أجله بإخلاص ونحافظ عليه كأعز ما نملك لأنه فعلا كذلك.
وهكذا فإن التجارب التاريخية القديمة والحديثة تؤكد لنا بلا لبس أن التفرق هو الخطر الأكبر الذي يهدد وجود الأوطان واستقرار الشعوب فحين تنقسم الصفوف وتضعف اللحمة الوطنية يفتح الباب واسعا أمام العدو سواء كان خارجيا يتربص أو داخليا يتسلل بين الشروخ والفراغات وفي ظل غياب الوحدة تفقد الشعوب قدرتها على المقاومة وتفرض عليها إرادات لا تعبر عنها وترسم لها مصائر لا تشارك في صنعها فالتفرق لا يولد إلا الهوان ولا يقود إلا إلى فرض الأمر الواقع بالقوة حيث يصبح الصوت الوطني خافتا والقرار مرهونا بغير أهله لذا فإن الحفاظ على وحدة الصف هو درع الأوطان الحصين وسدها المنيع في وجه كل طامع وهو الخيار الوحيد لضمان الكرامة والسيادة والحق في تقرير المصير.
وعلى الرغم من قتامة المشهد في سوريا وامتداد الظلال الثقيلة التي خلفها الاقتتال والفرقة فإنني ما زلت أتمسك بيقين راسخ بأن هذا الحدث الجلل على فداحته يحمل في طياته بذور اليقظة والوعي فالألم وإن اشتد قد يكون الشرارة التي توقظ الضمير والصوت الذي يعلو فوق ضجيج السلاح ليذكر السوريين بحقيقة واحدة لا تقبل الجدل أن لا منقذ إلا وحدتهم ولا خلاص إلا باستعادة وطنهم وربما يكون هذا المشهد المؤلم هو اللحظة الفارقة التي تعيد ترتيب الأولويات وتكشف الزيف وتفتح العيون على ما ضاع من كرامة وأمان وما دام في القلوب نبض مخلص وفي الأرض جذور ضاربة فإن الأمل لا يطفأ والعودة إلى وطن حر موحد ليست حلما بعيدا بل وعد ينتظر من يفي به.