الأربعاء 23 يوليو 2025

كنوزنا

يوليو 1952 التحدي والاستجابة

  • 22-7-2025 | 13:20

ثورة يوليو

طباعة
  • د. يونان لبيب رزق

بعد مضي نصف قرن على 23 يوليو عام 1952 لا يزال اللّجج دائراً حول وضع توصيف محدد للحدث الكبير، فخصومه يستكثرون عليه تسميته بالثورة، بينما بدا أنصاره وكأنهم متمسكون بهذا الوصف، ولكن على استحياء!.

ونرى أن السبب وراء ذلك ما تعرّض له الحدث الكبير، خاصة بعد وفاة صانعه الأول، جمال عبد الناصر، من هجمة شرسة، ومن أطراف عديدة، أسميناهم في بعض كتاباتنا “بأمراء الانتقام”، وهي الهجمة التي أثرت في قطاع كبير ممن لا يعلمون، فأصبحوا يرددون مفرداتها، خاصة ممن لا يقرؤون ولم يعايشوا العصر، وكأنها حقائق لا تقبل الجدل، الأمر الذي انعكس على المناصرين، فخفت صوت البعض وارتفع عند البعض الآخر على نحو غير مقبول، كثيرًا ما أتى بنتائج عكسية!.

ويبدو أنه لم تُوضَع دراسة تاريخية حتى هذه اللحظة لتصحيح المفاهيم، وما يترتب على ذلك من ضبط المسميات، الأمر الذي نحاوله في هذه الدراسة القصيرة...

فالمعلوم أن حركة التاريخ دائمًا ما تُفرز متغيرات، وكثيرًا ما يتمخض عن تلك العملية قوى جديدة ومصالح جديدة تعيش لفترة جنبًا إلى جنب مع القوى والمصالح القديمة إلى أن تطغى عليها، ومن الطبيعي أن تعمل بعدئذ على إزاحة هذه الأخيرة، فإذا لم تستطع بالطرق السلمية فلا مندوحة من استخدام القوة، وهو المنطق الذي ظل يتكرر، ليس في التاريخ المصري فحسب، بل بامتداد التاريخ الإنساني!.
إذا طبقنا هذا المعيار على الثورة الفرنسية، أمّ الثورات في التاريخ الحديث، والتي أسماها المؤرخون “ثورة البورجوازية”، فهي قد تفجرت تعبيرًا عن زيادة مصالح هذه الطبقة على نحو لم يستطع النظام القائم استيعابه، والذي ظل يغلب مصالح الإقطاعيين القدامى، هذا من جانب، ثم إن تلك الطبقة الجديدة قد أفرزت أفكارًا مختلفة عبّر عنها مفكرون أعلام بدءًا من روسو، ومرورًا بمونتسكيو ووصولًا إلى ديدرو، الذي وضع موسوعة تضمنت أهم أفكار الطبقة الجديدة، والتي بشّرت بأفكار الاستنارة التي تتعامل مع البشر من منطلق العطاء الإنساني لكل فرد، بغضّ النظر عن أصله وفصله، كما كان حادثًا مع القيم الإقطاعية التي كانت سائدة من قبل.

وبغض النظر عن الوسائل التي استخدمها الثوار في هدم النظام القديم the old regime، والتي أُخذ عليها البعض عنفها الشديد إلى حد توصيف إحدى مراحلها بعصر الإرهاب، فإنها في النهاية قد نجحت في إسقاط هذا النظام وإحلال نظام جديد أعطى للبورجوازية مكانها الطبيعي، وأزاح الأرستقراطية القديمة عن مكان لم تعد تستحقه.

باختصار، فإن حركة التاريخ تقوم على أساس وضع قائم لم يعد محتملاً، مما يمثل تحديًا للإرادة الشعبية، وعندما لا تتمكن من تغييره فإنها تلجأ إلى العنف، وعلى قدر نجاح هذا العنف في التغيير تكون درجة الاستجابة. أما إذا عجز عن ذلك، فيما يحدث كثيرًا في العالم الثالث، بتغيير شخوص الحكام دون تغيير النظام القائم، يكون من الصعب التوصيف بالثورة، وبهذا المفهوم نرى أن الوقت قد حان للتعامل مع ما حدث في يوليو عام 1952 وما بعده...

التحدي

تمثلت حالة القلق العامة التي عرفتها مصر خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (1945–1952) في أول مظاهر هذا التحدي، وهي حالة تبدّت في كثير من الظواهر:

مع عدم استقرار الحكم على نحو غير مسبوق، فالإنجليز قد نفضوا أيديهم من الصراعات الداخلية بعد إقالة وزارة الوفد في أكتوبر عام 1944، وهو نفض لم تمله الظروف الداخلية فحسب، بل أملاه قبلها انحسار الدور البريطاني العالمي، بعد أن خرج “الأسد العجوز” واهن القوى من حرب لم تبق ولم تذر!.

ولم يكن فاروق الأول على قدر المسؤولية، فقد توالت الوزارات، وكان لكل منها منطق مختلف: أحمد ماهر، ثم النقراشي، إسماعيل صدقي، ثم النقراشي مرة أخرى، بعده إبراهيم عبد الهادي، فعلي ماهر، حتى انتهى الأمر في بداية عام 1950 بتأليف الوزارة النحاسية السابعة والأخيرة، ولم تكن مثل أية وزارة سابقة من وزارات “الزعيم الجليل”!.

ونرى أنه مع هذه الوزارة بدأ احتضار النظام القديم... فقد اختلت حالة التوازن القديمة التي ظلت تحكم المسيرة السياسية في مصر، منذ صدور دستور عام 1933.. الإنجليز لم يعودوا طرفًا مؤثرًا، طغيان الدور الملكي، تهاوي أحزاب الأقلية، وأخيرًا اهتزاز صورة الحزب الشعبي التي ظلت غالبة خلال السنوات الثلاثين السابقة، ولأكثر من سبب:

1 - فالوفد كان قد أخذ في التحوّل بعد خروج أحمد ماهر والنقراشي أواخر عام 1927، ثم مكرم عبيد بعد ست سنوات، وما تبع ذلك من دخول فؤاد سراج الدين وفئات قوية من الأرستقراطية الزراعية، الذين قادوا الحزب الكبير بمكانة العُمد لا منطق المجاهدين، الأمر الذي كان لا بد أن يؤدي إلى انحسار التأييد الشعبي الذي طالما حظي به الحزب الكبير.

صحيح أنه قد جرت في تلك الفترة محاولات للحفاظ على بعض شعبية الحزب الكبير، من خروج جماعة يسارية صغيرة من معطفه، هي التي تسمت “بالطليعة الوفدية”، والتي قادها ابن أحد أقطاب الحزب الكبير “عزيز فهمي” وناقد أدبي شهير “محمد مندور”، غير أن تأثير المحاولة كان محدودًا، فقد حوصرت من الداخل، إذ لم تكن القيادة الجديدة التي التفّت حول النحاس باشا مستعدة أن تسمح لهذه الجماعة بتجاوز هامش محدد، مما حوّلها إلى جماعة ثقافية أكثر منها قيادة سياسية!.

2 - ظاهرة التفسخ في السلطة التي برزت خلال عامي الوزارة الوفدية الأخيرة، فالملك، بعد أن قبل بعودة النحاس، إلا أنه كان متوجسًا منه أشدّ التوجس، الأمر الذي تؤكده الوثائق البريطانية من ناحية، وتُسجّله مذكرات رجل القصر حسن باشا يوسف من ناحية أخرى.

وقد زاد من أسباب التوجس الحريات الواسعة التي أتاحتها الحكومة الوفدية للصحافة، مما مكن بعضها، خاصة صحف الأحزاب العقائدية، وعلى وجه التحديد “مصر الفتاة” التي تحولت إلى ما أسمته “الحزب الاشتراكي”، من الهجوم على الملك نهارًا جهارًا. وكان أشهر الحملات التي شنها أحمد حسين في صحيفته، صور مجموعة من البؤساء تحت عنوان كبير: “رعاياك يا مولاي!”.

زاد منها أيضًا موقف نواب الوفد من صدور قانون للحد من حرية الصحافة، وهو القانون الذي عُرف باسم مقدّمه “اسطفان باسيلي”، وعلى الرغم من أنه كان نائبًا وفديًا، وعلى الرغم من أن مشروع القانون كان قد تم إعداده باتفاق بين القصر وسراج الدين، فإن هؤلاء النواب قد أسقطوه بأغلبية ساحقة. أكثر من ذلك أن جريدة “المصري”، التي كانت أكثر صحف الوفد رواجًا في تلك الفترة، قد خرجت على قرائها بصورة لباسيلـي مجللة بالسواد، وهي تنعي حرية الصحافة!.

وزاد منها ثالثًا تفجير قضية “الأسلحة الفاسدة”، والتي كانت وراءها مجلة “روز اليوسف”، ورئيس تحريرها الأستاذ إحسان عبد القدوس، وعدد من ضباط الجيش، وبغضّ النظر عما ثبت من ضعف الأدلة الخاصة بتلك القضية، إلا أنها في مرحلة من مراحلها قد طالت بعض رجال الملك، الأمر الذي لم يكن ليغفره فاروق بسهولة للوزارة القائمة، خاصة أن جانبًا من هذه القضية قد أثاره بعض النواب في البرلمان ذي الأغلبية الوفدية الكاسحة!.

وكان من المنطقي مع ذلك أن ينتهز الملك أول فرصة ويقيل حكومة الوفد بعد حريق القاهرة في 26 يناير عام 1952، ليقع في مأزق أكبر، ولتزداد حالة عدم الاستقرار إلى الحد الذي تألفت معه أربع وزارات في مدة تقل عن ستة أشهر، الأمر الذي مثّل علامات نهاية الاحتضار والوصول إلى غيبوبة الوفاة، وهو ما لم يتأخر كثيرًا!.

الفشل غير المنطقي الذي منيت به الحركة الوطنية خلال تلك السنوات السبع العجاف، فعلى الرغم من سقوط كثير من مفردات ما قبل الحرب، وهي المفردات التي أملت توقيع معاهدة 1936، منها اختفاء حالة التوتر الدولي التي قادت إلى الحرب العالمية الثانية، ومنها انهيار الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بعد خروج الإنجليز من الهند عام 1947، الأمر الذي فقد معه القول “بحماية المواصلات الإمبراطورية”، الذي كانت تتذرع به حكومة لندن من قبل، كل مضمون، ومنها ظهور عالم جديد وصفه المؤرخون بعالم الدول المتوسطة والصغيرة حديثة الاستقلال، ورغم ذلك فقد ظلت القضية الوطنية تتعثر بين القاهرة ولندن.

تعثرت بعد فشل مفاوضات صدقي – بيفن عام 1946، وبعد إخفاق اللجوء إلى مجلس الأمن في العام التالي، التي قادها رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، ثم تعثرت أخيرًا في عهد حكومة الوفد الأخيرة بعد المفاوضات التي أجراها وزير الخارجية محمد صلاح الدين مع الجانب البريطاني.

وفي هذا الجو من التعثر العام لجأت حكومة الوفد إلى خطوتها الأخيرة بإلغاء اتفاقيتي الحكم الثنائي الخاصتين بالسودان، المعقودتين عام 1899، ومعاهدة 1936 في 8 أكتوبر عام 1951. وإذا كان لا يستطيع أحد أن يُماري في قيمة هذا العمل الوطني، غير أنه أقام الدنيا ولم يقعدها، وأخرج المارد الذي تكفل بالإجهاز على ما بقي من النظام القديم... أخرجه من القمقم، ولم يكن ليستطيع أحد أن يعيده إليه، ولا الوفد نفسه!.

ما ترتب على زيادة حجم الطبقة الوسطى، وقدر المعاناة التي كابدتها في ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية من “غلاء المعيشة”، من انتشار أسباب السخط، ولم تكن مثل هذه الظروف غريبة على المصريين، غير أنهم، خصوصًا في شرائحهم الريفية، لم يكونوا قادرين على التعبير عن سخطهم إلا في انفجارات محدودة، كما حدث في قرية كمشيش، لا في ثورة عامة، وهو عجز نتج عن ضعف الوعي عند الفلاحين من جهة، وتبعثرهم في قرى منعزلة من جهة أخرى، هذا فضلًا عن تمكن العصبيات المحلية، خاصة الأسرية والإقطاعية، من رقابهم من جهة أخيرة.

بيد أن ظروف الحرب قد أدت إلى خروج أعداد من هؤلاء إلى المدن، حيث عملوا في المتاجر أو في الصناعات الجديدة التي اقتضت تلك الظروف ظهورها، ثم ما لبث هؤلاء أن دفعوا بأبنائهم إلى المدارس والجامعات، واستُغلت قطاعات كبيرة منهم في الوظائف الحكومية الصغيرة، التي لم تكفل لهم عيشًا معقولًا، خاصة وأنهم كانوا يعانون حالة البذخ التي يعيشها كبار ومتوسطو ملاك الأراضي الزراعية، الذين كانوا قد وفدوا إلى العاصمة واستقروا فيها.

ولم يكن ليرضي هؤلاء أن يظلوا مهمشين على هذا النحو، خاصة وقد عرفت الفترة نفسها انتشار الأفكار الأيديولوجية التي وجدوا فيها طوق النجاة من وضع لم يعد محتملاً... من ثم جاءت الزيادة غير المسبوقة في حجم أصحاب تلك الأفكار... الماركسيين، ومصر الفتاة (الاشتراكيين)، والإخوان المسلمين، والمعلوم أن هؤلاء قد نجحوا في سحب الأرض من تحت أقدام الوفد، بعد أن سيطروا على الشارع السياسي المصري، الأمر الذي بدا في حركات الطلبة والعمال منذ عام 1946، والتي أكدت أن تغييرًا قد حدث، ولم يبقَ سوى ترجمته على أرض الواقع، مما شكّل جانبًا آخر من جوانب التحدي!.
أخيرًا، فقد بدا النظام القديم عاجزًا عن مواجهة المخاطر الخارجية، ممثلة في قيام دولة إسرائيل، وما تبعها من مضاعفات. فلأول مرة في التاريخ المصري الحديث يقبع على الحدود عدو علني يهدد التراب الوطني.

صحيح أن مصر قد عرفت خلال الحرب العالمية الأولى احتمالات الغزو التركي الألماني من الشرق، عبر سيناء وقناة السويس، وعرفت خلال الحرب العالمية الثانية غزوًا حقيقيًا، إيطاليًا وألمانيًا عبر الصحراء الغربية، والذي تكسر عند العلمين، إلا أنه سواء في المرة الأولى أو الثانية، فإنه قد حدث في إطار صراع عالمي، انتهى بانتهاء دواعيه!.

أما بالنسبة لفلسطين، فقد كان الخطر مقيمًا ولا يزال (!)، وكانت تلك القضية من أهم الأسباب التي أنعشت الوعي بالانتماء العربي بين المصريين، خاصة بعد النجاح في إقامة منظمة “جامعة الدول العربية” عام 1945 باتفاق من سائر الفرقاء في السياسة المصرية، بمن فيهم الوفد وقصر عابدين.

ويشير التأمل في مجريات الأحداث خلال تلك الفترة إلى حالة من التمزق قد انتابت المصريين بين العمل الوطني والسعي للتخلص من الوجود البريطاني الجاثم منذ نحو سبعين عامًا على صدورهم، وبين التوجه العربي العامل على مواجهة الخطر الجديد، وكان مثل هذا التمزق يشكل جانبًا أخيرًا من جوانب التحدي!.

الاستجابة

كان يمكن أن يتحول ما جرى ليلة 22–23 يوليو عام 1952 إلى مجرد انقلاب عسكري يؤدي إلى تغيير وجوه الباشوات والبكوات أصحاب الطرابيش، إلى وجوه الشبان من ضباط الجيش أصحاب الكابات، لو لم تكن الاستجابة على قدر التحديات!.

ويخطئ البعض عندما يقرن بين فكرة الثورة وحجم العنف، وأنه حتى تكتسب مثل هذا الوصف، فإنه يتوجب عليها أن تكون مقرونة بأكبر قدر من الضحايا. وقد تأثر هؤلاء بالنموذج التقليدي للثورات، فيما جرى أواخر القرن الثامن عشر في فرنسا، أو أوائل القرن العشرين في الثورة البلشفية في روسيا، التي ولّدت القوة العظمى الثانية في العالم، الاتحاد السوفييتي... وهم، تحت هذه الفكرة، لم يعجبهم أن يروا مجموعة صغار الضباط وقد أطاحت بالنظام القديم في ليلة ليلاء من ليالي التاريخ حسب اعتقادهم، واستولت على السلطة!.

ويمكن التسليم بصحة هذا الاعتقاد إذا كان ما قام به رجال يوليو مجرد تغيير الحكام القدامى بحكام جدد، دون استجابة للتحديات القائمة، الأمر الذي يتطلب تمحيص الموقف للتوصل إلى الحقيقة ووقف هذا الجدل العقيم...

عدم استقرار الحكم كان التحدي الأول، وهو ما بدا أن رجال العهد الجديد، كما أسموا أنفسهم، عاجزين عن مواجهته، فالتغير السريع في الوزارات من ناحية، والصراع الذي طفا على السطح بين قادة هذا العهد، عبد الناصر ونجيب، والذي وصل إلى ذروته خلال أزمة مارس عام 1954، بدا معه كأن حالة عدم الاستقرار ظلت قائمة.

غير أن القائلين بهذا الرأي لم يميزوا الفارق بين تقلصات الاحتضار، وهو ما كان حادثًا بالنسبة للعهد القديم، وبين صرخات الميلاد، وهو ما أصبح حادثًا، خاصة خلال العامين الأولين اللذين أعقبا الحدث الكبير. فبالنسبة للحالة الأولى، هي نهاية لمرحلة استقرار، أو خاتمة لفترة حياة عهد بأكمله، وفي الحالة الثانية هي بداية لمرحلة جديدة من الاستقرار الذي كان مفقودًا!.

يؤكد ذلك هدوء الشارع السياسي المصري في أعقاب الثورة، وهو الهدوء الذي يعزوه البعض إلى القبضة الحديدية التي أمسكت بها الحكومة الجديدة بأزمة الأمور. وهو رأي يستحق إعادة النظر، فالعنف وحده لا يكفي لصنع الاستقرار مع استمرار حالة السخط العام.

ولا يمكن التفريق بين تلك الحالة وجملة المتغيرات التي عرفتها مصر خلال الخمسينيات واستمرت على نحو أو آخر خلال العقد التالي، والتي قدمت استجابات معقولة للتحديات التي كان النظام القديم قد عجز عن مواجهتها.

وكان من الطبيعي، لصنع هذه الاستجابات، أن يبدأ رجال العهد الجديد في التخلص من بقايا النظام القديم. الملك فاروق تنازل عن العرش، وقبل أن يمضي عام آخر، تم إلغاء النظام الملكي برمته، بعد نحو قرن ونصف من وجود أبناء أسرة محمد علي على رأس الحكم في مصر، والأحزاب القديمة تم إلغاؤها في يونيو عام 1953.

وينتقد البعض بشدة الإجراء الأخير واعتبروه النقطة المميتة التي نقلت مصر من العصر الليبرالي إلى عصر الاستبداد الناصري، وهم في هذا يتناسون حقيقة، حتى وإن بدت مؤسفة، ألا وهي أن مدة صلاحية تلك الأحزاب كانت قد انتهت، وأنها لو كانت تملك بعض القوة، لقاومت الإجراءات التي لم يكن لها دور، أكثر من إعلان الوفاة والمواراة في رمس التاريخ!.

فضلًا عن ذلك، فقد جاء قانون الإصلاح الزراعي الأول، الصادر بعد شهرين فحسب من ليلة 23 يوليو، بمثابة قصّ الجناحين الاقتصادي والاجتماعي للقوى التي ظلت تجسد النظام القديم، والتي، كما سبقت الإشارة، تمثلت في الأرستقراطية الزراعية، ولم يكن مقدّرًا لها أن تطير في سماء الحكم بعد ذلك.

جاءت الاستجابة رقم (2) متعلقة بالقضية الوطنية، حيث أقدم الحكام الجدد على مجموعة من الإجراءات لم تكن أي من الحكومات التقليدية لتجرؤ على اتخاذها...

من تلك الإجراءات: الفصل بين قضية الجلاء وقضية السودان، وهو ما لم يحدث في أي مفاوضات مصرية – بريطانية سابقة، إلا عام 1929، التي لم تصل أبدًا إلى برّ النجاة، وكان معلومًا أن القضية الأخيرة ظلت الصخرة التي تتحطم عليها محاولات التوصل لاتفاق بين الطرفين.

ومع أن رجال العهد القديم نزلوا تقريعًا في قادة يوليو، ممن اعتبروهم شبانًا قصيري النظر، يضحّون بالمصالح المصرية في ماء النيل، الذي هو أساس حياة البلاد، غير أنهم قد تجاهلوا في ذلك ما أحدثه الزمن من متغيرات في هذه القضية، بين حقوق السيادة التي كانت إحدى مفردات العصر الإمبريالي، وبين حق تقرير المصير الذي ساد خلال فترة ما بعد الحرب، والذي تمسّك السودانيون به، ولهم كل الحق.

المهم، انتهى هذا التحدي بعقد المعاهدة المصرية – البريطانية في فبراير عام 1953، والتي أدى إتمام تنفيذها بعد نحو ثلاث سنوات إلى ظهور الجمهورية السودانية في الجنوب. وهذه النهاية، وإن لم تُرضِ كثيرين، غير أنها أنهت هذا الشق من القضية الوطنية.

منها أيضًا الشق الآخر، المتصل بالوجود العسكري البريطاني في منطقة القناة، وكان ميسورًا التوصل إلى حلّ له بعد تسوية الشق الأول من القضية، مما تحقق في معاهدة الجلاء التي عُقدت في أكتوبر عام 1954، ونصّت على جلاء آخر جندي بريطاني من البلاد خلال عشرين شهرًا، بعد أن بقي أصحاب “البيريهات الحمراء” على أرض الكنانة لنحو ثلاثة أرباع القرن!.

بسقوط هذه المفردة من المفردات التي ظلت تكبّل النظام القديم، انطلق الحكام الجدد يتخلصون من بقية القيود بالاستجابة لبقية التحديات.

فقد دخلت مصر بقوة في عالم الدول الصغيرة والمتوسطة المستقلة الذي ساد وقتئذ، وهو ما ترجم عن نفسه بمشاركات قوية في المؤتمرات التي جمعت قادة هذا العالم، بدءًا من باندونغ عام 1955، بكل ما ترتب على ذلك من دور قيادي في هذا العالم ظل المصريون يحلمون به من قبل، وكان عبد الناصر مع نهرو وتيتو وسوكارنو أحد أهم رموزه.

ساعد هذا الدخول من جانب، وجلاء آخر جندي بريطاني من البلاد من جانب آخر، إلى اتخاذ النظام الجديد لخطوة تأميم قناة السويس في 26 يوليو عام 1956، وعلى الرغم من أن تلك الخطوة قد أدت إلى تعرض مصر لغزو واسع، بريطاني – فرنسي – إسرائيلي، إلا أنه انتهى بالفشل، وظفر المصريون بقناتهم، وهو ما لم يكونوا يحلمون به في ظل النظام القديم، مما يشكّل ذروة الاستجابة لتحدٍّ من أخطر التحديات التي واجهت ذلك النظام.

الاستجابة رقم (3) تبدّت في جملة من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي صنعها النظام الجديد... بدأت بحركة تمصير محدودة، وانتهت بحركة تأميم واسعة، فضلًا عن تنفيذ مجموعة من الخطط الاقتصادية الخمسية، التي أصلحت من حال أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة، بكل ما تبع ذلك من انحسار أسباب السخط، ولكن لا نقول اختفاءه.

لم يبقَ بعد كل ذلك سوى الخطر الإسرائيلي الجاثم على الحدود الشرقية، ونرى أن الدعوة إلى الفكرة العربية، التي تصاعدت خلال الخمسينيات، ووصلت إلى ذروتها بقيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، إنما كانت درجة عالية من الاستجابة لهذا التحدي، ونختلف في هذا مع القائلين بأن تلك الدعوة قد أضعفت من الانتماء المصري، فقد كان من أهم بواعثها أولًا وأخيرًا كفالة الأمن الوطني لمصر.

وبغض النظر عما ترتب على الاستجابة للتحدي الأخير من مخاطر حاقت بمصر، ووصلت إلى ذروتها في حرب عام 1967، إلا أن الاستجابة لمجمل التحديات التي كانت قائمة قبل عام 1952، إنما يضع ما جرى في 23 يوليو من ذلك العام في مصافّ الثورات الوطنية، الأمر الذي نتمنى معه وقف اللجج حول حقائق التاريخ.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة