الثلاثاء 29 يوليو 2025

مقالات

جمهورية جديدة من رحم ثورة 23 يوليو المجيدة

  • 22-7-2025 | 13:24
طباعة

ثورة 23 يوليو البيضاء، التي قادها ضباط أحرار واستجاب لها الشعب المصري العظيم، الذي كان يئن من ويلات الاحتلال، تشكل صفحة مضيئة في سجلات تاريخ الوطن، بل وفي تاريخ الأمة العربية والقارة الإفريقية، حيث بات حينها حراك التحرر المصري مصدر إلهام لدول كبلها الاحتلال لعقود. فتحررت العقول، وفُكت الأصفاد عن أيادي الشعوب العربية والإفريقية بعد أن امتلكت مصر مفاتيح الحرية والاستقلال.

دوافع الثورة

لم تولد ثورة يوليو من فراغ، بل هي نتاج حراك وطني استمر منذ ثورة 1919 وما قبلها، وصولًا إلى هذا اليوم المشهود في تاريخ الوطن. فطالما رفض الشعب المصري الانبطاح والانصياع لفكرة الاحتلال عبر الزمان، فكان دومًا بالمرصاد على مدار العقود، متصديًا للمحتل البغيض، أيًّا كانت هويته أو رايته. ومن ثم، كانت فكرة التحرر الوطني محركًا أساسيًّا لثورة يوليو، في ظل حالة الاحتقان التي كان يعاني منها الشارع المصري، والتي انعكست على زيادة المقاومة المسلحة للاحتلال الإنجليزي، الذي لم يؤثر على الأوضاع الداخلية والاقتصادية، وأنهك النظام السياسي المصري، وهمّش القصر، وسمح بانتشار الفساد والخراب في الداخل فحسب، بل أيضًا أثّر على دور مصر الإقليمي، خاصة تجاه القضية الفلسطينية والقضايا العربية والإفريقية.

وقد شكّل عام 1948، وما شهده من أحداث عاصفة، نقطة تحول كبيرة ويقظة مصرية دفعت الضباط الأحرار للحراك وتحفيز الداخل المصري على القيام بثورة 23 يوليو 1952. وهذا أحد أهم الشواهد على عروبة تلك الثورة، ما منحها الطابع العروبي، وعلى أثرها تحررت الدول العربية من الاستعمار، بمساندة ودعم مصر لحركات التحرر، ليس فقط في المحيط العربي بل أيضًا في القارة الإفريقية، لتشكّل تلك الثورة نموذجًا تستلهم منه الشعوب القوة والقدرة على التحرر من الاستعمار، وصدّ العدوان، والتحليق في فضاء الوطن دون خوف.

الجمهورية الأولى

تحرك الضباط الأحرار نحو تحرير الوطن من بطش الاحتلال ووهن النظام الملكي، الذي كاد يُدخل مصر في ديمومة من الفشل الداخلي والخارجي، وبالفعل التحمت الصفوف بين الجيش والشعب ترسيخًا للشعار المصري الخالد: "الجيش والشعب يد واحدة"، يدٌ قادرة على إزاحة وتخطي كافة المخاطر والتحديات، والعبور بالوطن إلى برّ السلام. اصطفاف وطني هو كلمة السر التي تحقق النجاحات الوطنية على مدار التاريخ، وثورة يوليو شاهد ودليل على قوة وتماسك الصف الوطني المصري، الذي بدأ ينسج خيوط ودعائم تلك القوة عبر التأسيس لنظام سياسي جديد يتمكن من تحقيق أهداف الثورة المتعلقة بقيام حياة سياسية ديمقراطية، وإعادة بناء الجيش، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبالطبع التخلص من الاستعمار، وإعلاء القيم العروبية، ودعم ثورات التحرر في المنطقة العربية والأفريقية، وغيرها من أهداف لم تكن لتتحقق دون الهدف الأسمى، وهو إعلان الجمهورية الأولى، التي كانت الطريق نحو تحقيق مختلف الأهداف والآمال.

وفي يوم 18 يونيو عام 1953، وقبل أن تبلغ الثورة عامها الأول، تم إعلان الجمهورية المصرية الأولى، وإلغاء النظام الملكي، وذلك عبر وثيقة دستورية صاغها الضباط الأحرار، تنص على تولي أكبر أعضاء مجلس قيادة الثورة سنًّا رئاسة البلاد لإدارة المرحلة الانتقالية وصياغة دستور البلاد. ليصبح اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية، التي انتقلت بعد هذا إلى صياغة الدستور الأول لها في عام 1956، وانتخاب جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهورية، لتبدأ مرحلة جديدة من عمر الوطن. وقد نصّ دستور الجمهورية الأول في مادته الأولى على أن "مصر دولة عربية ذات سيادة، وهي جمهورية ديمقراطية"، لتتضح هنا قيم ثورة يوليو بجلاء في هذا الدستور الذي قدّم سيادة الوطن وحق الشعب في الديمقراطية فوق كل اعتبار.

الجمهورية الأولى ومواجهة التحديات

ولدت ثورة يوليو في ظرف داخلي وإقليمي صعب، دفعها للعمل بالتوازي بعد تأسيس الجمهورية الأولى على عدة محاور؛ فما بين تحقيق الأهداف الداخلية المتعلقة بتحقيق العدالة الاجتماعية والتخلص من سطوة الإقطاع، وصولًا إلى بناء السد العالي وتأميم قناة السويس وإحداث طفرة صناعية كبيرة، كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يسعى ويعمل بالتوازي على تفعيل دور ثورة يوليو عربيًّا وأفريقيًّا.

حيث إن قيام الجمهورية المصرية وسط إقليم تعاني دوله ويلات الاستعمار، كان بمثابة طوق أمل ونجاة للشعوب العربية والإفريقية، بل وحمّل الدولة المصرية مسؤولية دعم تحرر تلك الشعوب، التي تشبثت بحبال الثورة المصرية.

وبالفعل، ذهب جمال عبد الناصر لدعم ثورات التحرر في الجزائر واليمن وغيرهما من الدول العربية، بينما انطبق الأمر نفسه على دعم الشعوب الإفريقية، فكان لمصر دور بارز سواء في احتضان حركات التحرر الإفريقية في الداخل المصري، أو عبر كافة سبل الدعم الأخرى التي مدّت تلك الحركات بالقدرة على إزاحة الاستعمار. كما شكّلت تلك القوة التحررية المصرية الجديدة طاقة عمل جديدة للشعب الفلسطيني لدعم قضيته والمضيّ نحو النضال الوطني، بعد أن وضعت ثورة يوليو فلسطين وقضيتها في صدارة الاهتمامات.

وقد تنبهت القوى الاستعمارية مبكرًا للحراك المصري داخليًّا وإقليميًّا وأثره الإيجابي على الصعيد الإقليمي، بما يهدد نفوذ وسطوة الاستعمار في المنطقة العربية والإفريقية. فلم يكن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 من قبيل الصدفة، بل إن تحالف إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على حلم الجمهورية المصرية الأولى، كان إدراكًا منهم بقوة تأثير تلك الجمهورية وأثرها المستقبلي على شكل المنطقة، بما يهدد أطماعهم الاستعمارية. وبالفعل، تخطّت مصر تلك المحنة واستطاعت النهوض مجددًا عبر ملحمة وطنية، واستكملت طريقها، وحتى حينما تكررت المحاولة في عام 1967، استطاع ثالث رؤساء الجمهورية المصرية، الرئيس الراحل أنور السادات، العبور بالوطن من اليأس إلى الأمل، معلنًا نصرًا جديدًا لثورة يوليو المجيدة، وقدرتها على صون وحماية سيادة الوطن.

جمهورية جديدة من رحم ثورة مجيدة

ثورة 23 يوليو المجيدة مهدت الطريق، وتجاوزت تحديات جسام، لم يكن للوطن أن يتجاوزها إلا بقرار وطني صاغه ضباط أحرار، والتف حوله الشعب في وقت كادت مصر أن تسقط في براثن الفشل دون رجعة. الأمر الذي حمّل الجمهورية الأولى أعباء صعبة وثقيلة، تخلصت مصر من جزء كبير منها، وظلت بعض التحديات تنتظر جمهورية جديدة، تأتي لتنتقل بالوطن إلى آفاق أرحب، وتُكمل البناء، وتستمد من ثورة يوليو العزيمة والإصرار، ومن الجمهورية الأولى قيم السيادة والوطنية والانتماء.

فلم تكن ثورة 30 يونيو 2013 لتأتي من فراغ لإنقاذ الوطن، بل أتت نتاجًا لتلك التجربة الثورية الرائدة في يوليو 1952، لتؤسس جمهورية جديدة من رحم جمهورية أولى عظيمة. ويمكن القول إن الحركة الوطنية المصرية في العصر الحديث والمعاصر ممتدة ومستمرة، ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض؛ فبداية الحراك السياسي الوطني وظهوره جليًّا في ثورة 1919، ثم نجاح ثورة يوليو 1952، وإعلان الجمهورية الأولى، وصولًا إلى ثورة 30 يونيو 2013 وإعلان الجمهورية الجديدة، هو مشهد متكامل يجب أن يتم رصده مكتملا لإنصاف التجربة المصرية، التي خطت خطوات كبيرة، وقدمت تضحيات أكبر، لنصل إلى اليوم الذي نشيّد فيه جمهورية جديدة، ترتكز على تاريخ من العمل الوطني الممتد لعقود، ما يشكل أساسًا وجذورًا قوية تجعل الجمهورية الجديدة أكثر قوة، فهي ناتج كفاح وطني مستمر، لم ولن ينقطع.

فما أشبه الليلة بالبارحة، حيث تتشابه الظروف الإقليمية والدولية التي أحاطت بالجمهورية الأولى مع تلك التي تحيط بالجمهورية الجديدة، من حالة تشكّل لموازين القوى الدولية والإقليمية. وقد نجحت الجمهورية الأولى في إعادة التموضع المصري خارجيًّا بكل قوة، وهو الأمر نفسه الذي تحققه الجمهورية الجديدة باقتدار، بل إنها تعلمت واستفادت من دروس الماضي، لتعمل وفق مرجعية وطنية زاخرة بالتجارب الوطنية الملهمة. وتشكل ثورة 23 يوليو المجيدة أحد أهم تلك المحطات، التي ما زالت تشكّل الوعي الجمعي، وتدفعه دومًا نحو المزيد من التضحية والفداء من أجل الوطن، خاصة وأن اليوم هو الأصعب، ونحتاج خلاله إلى استحضار كافة تلك اللحظات والمحطات الوطنية العظيمة، بما تشكله من فخر واعتزاز يدفعنا لاستكمال المسيرة وتحقيق الآمال والطموحات.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة