الثلاثاء 29 يوليو 2025

ثقافة

نغمات الموسيقى

  • 24-7-2025 | 12:58

نغمات الموسيقى

طباعة
  • صفية فرجاني

"في توقيعات الموسيقى يختبئ سّر لو كشف عنه لتزعزع العالم"

جلال الدين الرومي

"يأتيها في الحلم  دائمًا يلعب معها، تكبر وتصغر بين يديه، يأتي محملا بهدايا كثيرة، لا تهتم بها بل ولا تراها بينما تمسك به هو تشتم رائحته، تتأمل عينيه وهو يضحك لها، يحدثها طوال الليل، يحكي لها عن الشمس والثعلب الصغير الذي فات وفي ديله  سبع لفات،  والدبة التي وقعت في البير، يخرج لها من الهدايا كرة زجاجية تضوي بألوان بنفسجية، تدحرجها على الأرض وترفعها لأعلى فتسقط وتضوى بألوان ذهبية، تتحرك الكرة بسرعة لا تستطيع التحكم فيها فتسقط في بير الحدوتة، تتأمل البئر فتجد  عين ماء ليس لها قرار".

 تستيقظ فجأة وهي تشهق من الخوف حتى يكاد يقف الهواء فى حنجرتها، يتصبب جبينها ورقبتها عرقًا غزيرًا، تبكي وتنادي عليهما، تتمنى أن تحضر أمها وأبوها  معًا ولو مرة واحدة. 

وتتذكر أيامًا  عديدة بدونه، نهارها سحب معتمة يختفي فيها  ولا تراه.

ترتب لها أمها حقيبتها استعداد للذهاب للمدرسة، تمسح دموعها العالقة بعينها،

وتقول لها : قريبًا سوف يعود

تتابع أمها، بعيونها،  تصمت لا تُرد

تطل شمس من نافذة الباص أشعتها صفراء مثل جناح الكتكوت الذي ترسمه، تخايلها من بعيد الألوان البنفسجية التي كانت تضوي من الكرة الزجاجية التي أحضرها لها في الحلم، تفتح حقيبتها علها تجدها، ثم تتذكر عين الماء التي وقعت بها وليس لها قرار، ماء بلون سن القلم الرصاص التي دائما ما يخف لونه مع كتابة حروف الأبجدية التي أصبح إتقانها ما يميزها عن زميلاتها.

تتابعها الشمس تدخل معها فناء المدرسة تغير مكانها في السماء لتقترب منها رويدًا رويدًا حتى تقترب خيوط أشعتها الذهبية منها، تعبث معها، ترفع خصلات شعرها فينتشر الضوء في خطوط متعرجة على جدران المدرسة خطوط لا تستقر. 

رأت المعلمة سُميَّة فاقتربت منها ومسحت على شعرها.. وسارت معها إلى  مكانها المعتاد في طابور الصباح مع باقي زملائها، انتظم الطلاب في صفوفهم، تقدم طلاب الإذاعة المدرسية، تلاهم  طلاب حرس تحية العلم، رأت السارية يرفرف فوقها العلم بألوانه الثلاثة والذي بدأ فرحًا واهتز طربًا  عندما رفعت سمية إليه عيونها، اصطف الجميع ثابتًا في مكانه، وبدأت تنساب نغمات من الموسيقى في فناء المدرسة، فجأة فج الضوء وظهر أستاذ الموسيقى مستر محمد دهشان والذي كانت تعلم بغيابه في إجازة مرضية طويلة، واليوم عاد، أستاذها الذي دربها على الاستماع  للموسيقى من حولها، ودرب يديها على احتضان الكمان،  وعلم أناملها لمس أصابع البيانو والضغط عليها بإحساس، رأت ضمة شفتيه ينفخ في فتحات الناي فتنساب دموع الأستاذ والناي، أخبرته سمية مرَّات سابقة بأنها دائمًا ما تراه بمفردها في البيت والشارع، وعندما تراه تسمع نغمات جديدة لم تعرفها من قبل، اليوم تذكرتها عندما رأته  بعد غياب طويل.

مع وقع خطواته في وسط طابور الصباح تنبع موسيقى هادئة، لمحته وهو يعطي  للطلاب تعليمات للصعود إلى الأدوار العليا وصعود السلالم، يبتسم للجميع يقترب من الصغار يحتضنهم، يساعد على حمل الحقائب المدرسية. حتى كاد يخلو فناء المدرسة إلا من طابورين بعد طابورها، لمحها،  ناداها، التفتت له، انسابت نغمات وحلقت الطيور وانتشرت عطور، رأت فيه شبه من صورة أبيها  التي لم ترَهُ  أبدًا. 

حدَّثت نفسها: سوف أبقى في فناء المدرسة لأسلم عليه وأقص عليه الحلم.

مع صعود آخر التلاميذ، وبداية بطء موسيقى  المارش المدرسي، تجري سمية بسرعة وسط فناء المدرسة الواسع على هيئة دائرة، تضيء حلقات من الضوء يظهر وسطها مستر محمد دهشان فتتقدم منه، كان هو في  الوقت الذي وصلت إليه، يلتفت للخلف ليجيب على نداء مديرة المدرسة. رأت بين شفته السفلى وذقنه ظلًا بنفسجيًا  فاتحا  يدعوها لتقترب، فاقتربت خطوة  منه، ظهرت مساحات من اللون الأبيض الضارب للصفرة تحيط بفناء المدرسة، عاد بعد غياب. عاد بعدما قابلته في الحلم، أتراه هو من  كان يبحث معها عن الكرة الزجاجية، قال لها : سأبحث لك عنها، من بين العتمة والنور كان يظهر لها ويختفى، أمسكت به ودارت حوله وحول البئر، هو من قال أنه سينزل  في البئر العميقة ليحضرها لها،  آخر ما سمعته سمية اسمها ينادي عليها الجميع، وهي تتقدم من مستر محمد دهشان ولا ترى منه إلا يديه، دارت  حوله نصف دائرة حتى تقابلت معه..  وقبل أن يفيق تقدمت منه … فانحنى لها، مازالت ابتسامته شموس تضوي أمام عينيها،  وبمجرد أن تقدم منها، وفتح لها يديه، أمسكت بهما وتشبثت، وأخذت تدور حوله، تدور وتدور  في سبع لفات متتالية يأتيها في اللفة الأولى صوت أمها  إنه هناك ولم يسأل عنها، إنه هناك ولم يحضر ليراها، ويسمع مستر محمد دهشان في اللفة الثانية صوت بكاء زوجته المكتوم بعد سنوات من انتظار الضنى، في اللفة الثالثة تكتب اسم والدها بخطها الجميل وترى اسمها  يلتصق باسمه يتماهى الاسمان وتختلط حروفهما، يرى مستر محمد دهشان في اللفة الرابعة أيادي أطفال صغار  تترك يده، وتجري لتسقط في بئر عميقة، أما اللفة الخامسة مفاجأة  ترى حضوره البهي وفرحتها به يبتسم وينفخ في الشموع يحتفل  بعيد ميلادها التي انطفأت في غيابة، اللفة السادسة يذكره أنين الناي الحزين بأصله الذي رآه انقطع  ولن يعود، بينما في اللفة السابعة يسمعان فيها معًا نغمات الكمان الشجرة التي تحملهما معًا في فضاء فسيح يلتقيان  فيه بعد فقد الأحبة. 

 في البداية اندهش مستر محمد دهشان من حركتها، كان يظنها تريد أن تسلم عليه، حاول إيقافها بعد دورتين، ولكن وجد جسده  ينصاع لحركتها ويدور في فلكها، خف وزنه شيئًا فشيئًا، وزاد تمسك سمية بيديه، وبدأ الدوران يزداد، شمل فناء المدرسة كله بدأ اتساع الدوائر قليل ثم انفرجت حلقاتها، وانسابت نغمات المارش المدرسي على إيقاع حركات جسميهما، وسط دهشة الجميع، اتسعت دائرة الدوران، وارتفعا معًا عن الأرض قليلا وإن بدت أقدامهما تستند على سطح لم  يبين بعد، ظلت المسافة بينهما متساوية، بينما ارتفعت  ضحكات سمية  المتتالية، ضحكات تأتي من مكان بعيد سمع صداها  الكل، غابت ملامحهما، تداخلت الألوان وذابت في الأفق واستقرت في لون أبيض شاهق.

 وعندها ارتفعت نغمات الموسيقى وبدأ وقعها نجد له صدى في دقات قلوبنا لأغنية قديمة كنا نسمعها من الراديو، الثعلب فات فات، وف ديله سبع لفات.

نظر معلمو الأدوار العليا من المدرسة يسمعون أصداء ضحكات ويرون  دائرة من الضوء بخيوط براقة ترتفع لأعلى  يغلب عليها اللون البرتقالي الذي يذوب رويدًا ويشف حتى استقر على اللون الأبيض.

وباقي من ألوان الطيف تطايرت بعيدًا مع الرياح تحت أشجار بجوار سور المدرسة.

استعصى على بعض المعلمين ومديرة المدرسة الدخول في دائرة الضوء، وإيقافها، كان هناك حاجز من الزجاج البلُّوري يرونه ولا يستطيعون النفاذ منه، انتشرت في فناء المدرسة رائحة احتراق لشمع يطفأ مرة واحدة، حاول بعض المعلمين تسجيل تلك اللحظات بالموبايل. ولكن عندها ارتفعت سمية ومستر محمد دهشان في أفق أعلى في ثوانٍ عصيت على التسجيل ولم يعد يعثر لهما على أثر،  لم يكن هناك إجابات عن تساؤلات شتى.

إلا بعد أن حضرت الأم وأجابت عن سؤال واحد….. أنها أخفت  عن ابنتها طوال أعوامها السبعة أن والدها الذي تسأل عنه كثيرًا وتتمنى أن  يأتي لاصطحابها من المدرسة وقت الانصراف. لم يتوفَّ - كما قالت لها سابقًا بعد طلاقهما-  وأنه سوف يحضر من السفر وتراه قريبًا. أما زوجة مستر محمد دهشان قالت للجميع وهي ملتاعة: بأنها  أخبرته بالأمس فقط أن نتيجة التحليل النهائية أثبتت أنه لن يستطيع الإنجاب أبدًا.

الاكثر قراءة