الجمعة 8 اغسطس 2025

تحقيقات

"لا تغلوا في دينكم وما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه".. موضوع خطبة الجمعة

  • 8-8-2025 | 09:57

مصلون

طباعة
  • محمود غانم

تأتي خطبة الجمعة، اليوم، تحت عنوان:"لا تغلوا في دينكم وما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه"، حيث يستهدف توعية المصلين بخطر الغلو والتشدد على الفرد والمجتمع، وبيان قيمة الرفق واللين واليسر في كل الأمور، فيما تتناول الخطبة الثانية موضوع الصداقة الحقيقية.

وفيما يلي نص خطبة الجمعة: 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ النعمة وأوضح السبيل، ورضي لنا الإسلام دينًا، وجعله سهلا يسرًا مبينا، وأشهد ألا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، شرعَ الرفق والتيسير، ونهى عن الغلو والتعسير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد جاء هذا الدين العظيم ليحرر العقول والنفوس، لا ليقيدَها بقيود الحزن والبؤس والنفور، فمهما ضاقت الحياة فإن دين الإسلام ينقلُ البشر من الضيق إلى السعةِ، ومن الشدة إلى اللين، فهو دينُ يُسر لا يخالطه عُسر، وسماحةٌ لا يُشوبها كدر، يبنى على قاعدة متينة، ووصية عظيمة، ورسالة بليغة موجهة لأهل الكتاب في سياقها، إلا أن عبرتها شاملة، ودروسها عامة لكل من تجاوز الحد، وغالى في دين الله بغير حق، قال جل جلاله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحق}

أيها الكرام انتبهوا! فقد حذَرَنا الجنابُ الأنور صلى الله عليه وسلم من مغبة الغلو والتشدد، فقال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، فكان تحذيرًا لكل من تسول له نفسه أن يُحوّل العبادة من سكينة وطمأنينة إلى قلق وحيرة، ومن محبة وإخلاص إلى عنف وقسوة، فالغلو ليس فقط زيادةً في العبادة، بل هو خلل في الفهم، ومرضٌ في القلب، يُصوّر لصاحبه أن الحق محصور في رأيه، وأن كل من خالفه فهو على باطل، فيُضيق على الناس في أمورهم، ويشدد عليهم حياتهم، ويُكفّرهم بغير بينة ولا برهان، ويرى أن رحمة الله وسعت كل شيء إلا من عارضه في فكره، وأنَّ فضل الله لا يُعطى إلا لمن اتبع هواه، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ فَمَن يَهْدِيهِ مِن

بَعْدِ الله}.

أيتها الأمة المرحومة، كم رأينا من أقوامٍ ضلت، ومن أمم تاهت ومن مجتمعاتٍ مُزّقت، ومن دول دُمرت، حين تجاوزت حدود الاعتدال والرفق، ووقعت في فخ الغلو والتشدد والتعصب في الأقوال والأفعال، فصار فيهم من يدعي امتلاك صكوك الغفران ومفاتيح الجنة والنارِ، ونشروا حالَ الغلو والتشدد والتكفير والتفسيق والتبديع ثم القتل والحرق والتدمير، ودين الله منهم براء! فهو دين اليسر والسماحة والجمال، ألم ينزجر هؤلاء من قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}؟! ألم يستمعوا إلى خطاب الرحمة الإلهية الذي يرسم منهج حياة يغمرها اليسر لا العسر {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}؟! ألم يأن لهم أن يرفعوا الحرج والعنت عن هذه الأمة المرحومة؛ استجابة لنداء العظمة الإلهية هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج، وتوجيه الرحمة المحمدية «ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إِلَّا زانَه، ولا نُزِعَ من شيء إِلَّا شانه».

وهذه كلمة إلى المغالين في دين الله: هل غابت عنكم رحمةُ الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه الذي أرسله الله لنا بهذا المنهج الرباني؟! ألم تروه كيف كان لينا سمحا رفيقًا شفوقا، حتى قال الله جل جلاله له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهَ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؟ وهل نسيتم وصية الله سبحانه له ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}؟!، لقد كان أكمل الخلق رحمة ورفقا، وما أرسله الله إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ألم يكن الجنابُ المعظم معدنُ الرسالة وموطنُ الرعاية غير مغالٍ حتى في عبادته؟! حت كان يقول: «أَمَا والله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لله، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»؟ فهل من سنة رسول الله أن تكرهوا الناس على عبادة الله والاستقامة على طاعته؟!

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فيا عباد الله، إن في هذه الحياة نعما لا تُحصى، ومعادنُ لا تفنى، ومن أثمن تلك النعم وأعظمها الصداقة الحقيقية النقية، فهي رابطة أرواح، وميثاق قلوب، تُبنى على الصدق والإخلاص، لا على الزيف والنفاق، فهي شجرةً وارفة الظلال، تثمر حبًا ووفاءً، وتزهر مساندة وعطاء، الصداقة شعورٌ ممزوج بالحب والتآلف في الله جل جلاله، ممتد أثره إلى أن يسمع هذا النداء المفعم بالود والاتصال الأخلاء يومئذ بعضُهم لبعض عدو إلا المتقين، وهذا البيان القدسي الجميل: «حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَايِّينَ فِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّنِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِي، وَحَقَّتْ عَبَّنِي لِلْمُتَرَاوِرِينَ فِيَّ، وَالمُتحَابُّونَ فِي الله عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِل الْعَرْشِ يَوْمَ لا ظل إلا ظله».

أيها المكرم، هل من كنز في الحياة أعظم من يد تمتد إليكَ في عثراتك، وابتسامة تزيل همومك وقت محنتك؟ أليست النور الذي يضيء دروب الحياةِ، والملجأ الذي تأوي إليه الأرواح المتعبة؟ إنها الروح التي لا تبهتُ، والقيمة التي لا تفنى، فهل أدركنا عمق هذا الكنز الثمين؟! فكم من صديق صدوق كان خير معين لأخيه، في الشدائد كان السند، وفي الرخاء كان الفرح، فإذا رأيتَ في صاحبك عيبًا فانصحه برفق ولين، وإذا استشارك كن له نعم الأمين.

عباد الله، اجعلوا صداقتكم الله وفي الله، احرصوا على صداقة من يذكركم بالله إذا نسيتم، ويعينكم على طاعته إذا غفلتُم ومن يسعدكم في حياتكم، ويؤنسكم بدعائه في مماتكم، فتلك هي الصداقة التي لا تفنى، بل تبقى نورًا ساطعا قدسيّا مباركًا، والله در القائل:

إِنَّ أَحَاكَ الحَقِّ مَن كَانَ مَعَكَ * وَمَن يَضِرُّ نَفْسَهُ لِيَنفَعَك وَمَن إِذا رِيبَ الزَّمانُ صَدعَك * شَتَّتَ فِيكَ شَملَهُ لِيَجْمَعَكَ اللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة