الجمعة 15 اغسطس 2025

مقالات

حكايات مزمنة.. الناس اللي فوق

  • 15-8-2025 | 12:58
طباعة

كانت جدتي ترددها دائمًا وكأنها دعاء محفوظ النبي وصى على سابع جار، لم تكن بالنسبة لها مجرد عبارة دينية، بل ميثاق شرف يربط الناس ببعضهم، مثل صلة الرحم تمامًا، جسر من المودة وحصن يبعدنا عن المشاكل.

لكنني في زمننا هذا أجد أن هذه الوصية صارت في الغالب حبرًا على ورق، أو صدى صوت يتلاشى بين جدران البيوت فبدلًا

من دفء الجيرة، نجد مشاجرات على أتفه الأسباب، وقضايا في المحاكم بسبب موقف سيارة أو تسريب ماء، ونظرات ترصدك وكأنك عدو داخل حدود بيتك.

أتذكر يوم خرجت من المستشفى، جسدي منهك وروحي متعبة، وعدت إلى بيتي أبحث عن لحظة هدوء، لم يسأل عني أو يطرق بابي جار إلا رجل بسيط، صاحب كشك سجائر في الدور الثالث، جاء بابتسامة صادقة وسؤال عن الحال.

لكن الاستثناء الآخر كان لجارنا في "الدوراللي فوق" جاء يحمل زجاجتين من صودا البيبسي، وطرق الباب بابتسامة عريضة، يسألني عن العلاج والفحوصات، للحظة صدقت وأن الزيارة ودية، حتى اكتشفت أنه جاء ليتأكد من مدة علاجي، ليحسم في نفسه قرار اغتنام مكان سيارتي، رغم أنه له مكانًا مخصصًا! لم أحزن من جشاعته، ولكن اتعبني  نظرات والدتي له وكأنها تقول مستعجل تورث ابني بالحياة وغادرت والدموع لامعة في عينها.

لم يكتف الجار بذلك بل قام بشراء دراجة بخارية ووضعها في مدخل العمارة، محولًا إياه إلى جراج خاص.

وحينها همست في عقلي من أين له كل هذه الثروة في ظل غلاء الأسعار؟ وشعرت وكأنه قرأ أفكاري فاكتفى بابتسامة لم أفهمها، وكأنني لامست سرًا دفينًا.

أدركت حينها أن وصية النبي عن الجار لم تضع، لكنها ضاعت في قلوب لم تعد تسع إلا للأنانية والمصالح، وأن دفء الجيرة أصبح في كثير من الأحيان مجرد ذكرى من زمن الأجداد، نرويها على أمل أن تعود يومًا.

وأحيانًا أفكر لو كانت الجدران التي بيننا وبين جيراننا قادرة على الكلام، فكم فضحت من الحكايات التي تُطبخ في الخفاء.

الجار الذي يبتسم لك صباحًا ربما يقف مساء خلف بابه يراقبك من العين السحرية، يعد أنفاسك، ويحصي خطواتك، وكأنك برنامج مراقبة مجاني يشاهده وقت فراغه.

وفي لحظة صدق مع النفس، تذكرت أن الجيرة الحقيقية لم تكن يومًا في القرب المكاني فقط، بل بالقرب الإنساني، بالجار الذي يمد يده قبل أن تطلب، ويفرح لفرحك ويحزن لحزنك، وهذا النوع أصبح عملة نادرة إن وجدته فتمسك به، فربما يكون آخر ما تبقى لنا من زمن سابع جار الذي أوصانا به النبي.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة