السبت 16 اغسطس 2025

كنوزنا

مزامير نجيب محفوظ

  • 16-8-2025 | 11:16

رجاء النقاش

طباعة
  • رجاء النقاش

امتلأت رواية «الحرافيش»، وهي أحدث روايات نجيب محفوظ، بالأشعار الصوفية للشاعر الفارسي الكبير حافظ الشيرازي، كما تناثرت على صفحات الرواية بعض الأشعار الشعبية الجميلة، ولكن «الحرافيش» لم تقتصر على الأشعار الصوفية والأشعار الشعبية، بل امتدت روح الشعر إلى سطورها المختلفة، فملأتها بالعطر منذ البداية حتى النهاية، ولا شك أن نجيب محفوظ يقدم إلينا في هذه الرواية تجربة جديدة في الأسلوب، وهي تجربة ناضجة مكتملة، اعتمد الفنان الكبير فيها على مواهبه الفنية الخصبة التي عرفناها عنه في أعماله الكثيرة السابقة.

ويمكننا أن نتوقف أمام هذه التجربة الجديدة في الأسلوب لنحدد ملامحها في خطوط وتفاصيل محددة.

وأول ما نحس به في أسلوب “الحرافيش” هو “سرعة الإيقاع”، فالجمل قصيرة جدًّا وسريعة جدًّا، ليس هناك أي نوع من البطء أو التطويل أو البحث عن التفاصيل، ومن الملاحظ في هذه الرواية أن حروف “العطف” غير موجودة إلا في أضيق الحدود، ومن هنا تبدو الرواية – على طولها – وكأنها جملة واحدة منقسمة إلى عبارات سريعة متلاحقة.

ولنقرأ هذه الفقرة من الحرافيش، وسوف نجد فيها هذه السرعة والجمل القصيرة، كما أننا لن نلتقي بحروف العطف، وإنما هي عبارات تتلاحق كالأنفاس اللاهثة، يقول نجيب محفوظ ص21:
“الظلام مرة أخرى يتجسد في القبو، يغطي المتسولين والصعاليك، ينطق بلغة صامتة، يحتضن الملائكة والشياطين، فيه يختفي المرهق من ذاته ليغرق في ذاته، إن قدر الخوف على أن ينفذ من مسام الجدران فالنجاة عبث”.

وفي هذا المقطع نموذج من أسلوب الرواية كله... سرعة لاهثة تتلاحق فيها الكلمات في إيقاع لا يعرف البطء ولا الهدوء.

ويتصل بهذه “السرعة اللاهثة” في الأسلوب اهتمام بالغ بـ”الإيجاز” الشديد في الوصف والحوار معًا، فالكلمات قليلة، لا تهتم بالتفاصيل الكثيرة ولا تسعى إليها، ولكنها في نفس الوقت كلمات شفافة غنية بالمعاني والأفكار.

وهذا “التركيز” الشديد كان من أكثر العناصر التي أعطت للحرافيش هذه الروح الشعرية الجميلة، لأن التركيز هو لغة الشعر الأولى، والشعر الحقيقي هو الذي ينبع من الكلمات القليلة الموجزة، لأن الشعر الصحيح دائمًا يهمس ولا يصرخ، ويوحي ولا يعلن في صخب عن أحزان القلب وهموم الإنسان.

ولو أن الحرافيش قد خلت من هذا التركيز الشديد، لاحتاجت مادتها الروائية إلى مجلدات عديدة لكي تكتمل، ولكن نجيب محفوظ استطاع أن يعتصر من هذه الأحداث الكثيرة الغزيرة جوهرها ويقدمها في أسلوب شعري شديد التركيز والعذوبة.

ومن خلال التركيز الشديد في الحرافيش نجد أنفسنا أمام ظاهرة جديدة، وانتشرت هذه الحكمة في سطور الحوار المتبادل بين الأبطال، وفي عبارات الوصف الروائي، ولا أعرف رواية أخرى بين روايات نجيب محفوظ امتلأت بهذا القدر من “الحكمة” العميقة التي تختصر التجربة الإنسانية في عبارات قليلة، لا أحد في هذه الرواية الجميلة يثرثر، ولا أحد يلجأ إلى المناقشات الطويلة المملة، فالكل يتكلم من الأعماق، ولا فرق في ذلك بين الأخيار والأشرار، بين الأبطال والبلطجية... الجميع يعبرون عمّا في داخلهم، حتى ولو كان شرًّا أو خطيئة، ونفوس الأبطال عارية، والأعصاب حادة، والمشاعر واضحة ملتهبة فهذا أحد الأبطال يقول لنفسه في حوار مع ذاته:

“أين صفاء البال، أين؟”

وهذه عبارات أخرى من الحوار الذي يدور بين الأبطال:

“من يحمل الماضي تتعثر خطاه.”

“النجاح لا يوفر دائمًا السعادة.”

“الحزن كالوباء يوجب العزلة.”

“لا توجد الكراهية إلا بين الإخوة والأخوات.”

“ألا ترى قاتلًا يمرح وبريئًا يتعذب في الغربة؟”

“من الهرب ما هو مقاومة.”

“لن نمل انتظار العدل.”

“لا قيمة لبريق في هذه الحياة بالقياس إلى طهارة النفس وحب الناس وسماع الأناشيد.”

هذه نماذج من العبارات التي جاءت على لسان أبطال الحرافيش في حوارهم مع أنفسهم أو في حوارهم مع بعضهم البعض، وهي عبارات تملأ الرواية من أولها إلى آخرها، وهي أيضًا عبارات تعتمد على ألفاظ قليلة مختارة، ولكنها كلها عبارات شعرية تميل إلى “الحكمة” والتعبير عن التجربة العامة التي تتصل بالحياة والإنسان، وهي تثير فينا - عندما نقرؤها – أعمق المشاعر والأحاسيس، وتعطينا أيضًا جوًّا من الغنائية العذبة حول واقع الحياة وتجارب الإنسان.

ونحن لا نلتقي بهذه الروح الشعرية التي تعتمد على التركيز والسرعة في الحوار فقط، وإنما نجدها في السرد والوصف كذلك، حيث تمتلئ الرواية هنا بعبارات شعرية تشيع منها روح الحكمة، مثل قول نجيب محفوظ:

“البسمة قدر، والدمعة قدر.”

و”لو أن شيئًا يمكن أن يدوم على حال، فلم تتعاقب الفصول؟”

وفي الرواية تتردد مقاطع كاملة من التأمل الصافي الجميل، يقدم بها نجيب محفوظ فصلًا من الفصول، أو ينهي بها فصلًا آخر، وهذه التأملات تتم صياغتها في رقة وعذوبة، ومن هنا نحس أن الكلمات مليئة بندى الشعر الجميل، كما نتذكر ونحن نقرأ هذه المقاطع “مزامير داود” التي جاءت في العهد القديم، والتي تعتبر – بعيدًا عن قيمتها الدينية - مجموعة من أجمل الأغاني التي عرفتها الإنسانية، في حديثها عن همومها وجروحها وآلامها ومناجاتها الصوفية للكون والحياة.

ويمكننا أن نسمي هذه المقاطع من رواية الحرافيش باسم “مزامير نجيب محفوظ”، ولعل نجيب محفوظ قد تأثر بهذه المزامير، وليس عندي من دليل إلا تشابه الروح التي تتأمل وتغني وتفكر وتصوغ خواطرها صياغة شعرية جميلة.

يقول نجيب محفوظ في “مزمور” من مزاميره، أو مقطع من مقاطعه الصوفية الصافية الجميلة – وهذا المقطع نجده في مطلع الحكاية الثانية من الحرافيش:

“في ظل العدالة الحنون تُطوى آلام كثيرة في زوايا النسيان، تزدهر القلوب بانتقاء، وتمتلئ برحيق القوت، ويسعد بالألحان من لا يفقه لها معنى، ولكن هل يتوارى الضياء؟ والسماء صافية؟”
وفي مقطع آخر أو مزمور آخر يقول نجيب محفوظ:

“عاد إلى دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق، قبض على أهداب الرؤية، وانتفض ناهضًا ثملاً بالإلهام والقدرة، فقال له قلبه: لا تجزع، فقد ينفتح الباب ذات يوم، تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.”

وفي مزمور ثالث أو مقطع ثالث، يقول نجيب محفوظ مصورًا لنا “لحظة نفسية” من لحظات أهم أبطال الرواية “عاشور الناجي”:

“خرج من القبو إلى الساحة، انفرد بأناشيد التكية والجدار العتيق والسماء المرصعة بالنجوم، جلس القرفصاء دافنا، وجهه بين ركبتيه، منذ نيف وأربعين عامًا تسللت به أقدام خاطئة لتواري خطيئتها في ظلمة الممر، كيف وقعت تلك الخطيئة القديمة؟ أين؟ في أي ظروف؟ أَلم يكن لها ضحية سواه؟”

وفي هذه الكلمات نحس أن الكاتب الفنان لا يصف “عاشور الناجي” وحده، وإنما يصف من خلاله الإنسان على هذه الأرض، ويحاول أن يلمس بشفافية ذلك الجرح العميق الذي يكمن في المصير الإنساني كله.

فالإنسان يولد ويتعذب ثم يموت، هذه هي الحقيقة التي يخفيها مرور الأحداث الكثيرة في حياة البشر، ولكنها كامنة في الأعماق، أو لحظات الحزن، أو القلق، أو لحظات “العظة والعبرة”.

على أن ينابيع الشعر في الحرافيش لا تزال كثيرة، نوجز ما بقي منها هنا لضيق المجال:

* تمتلئ الحرافيش بالأصوات الداخلية التي تنبع من ذات الإنسان لا من خارجه، والأبطال يستمعون إلى هذه الأصوات الداخلية كما لو كانت حقيقة واقعة ملموسة، وكثيرًا ما نقرأ عبارة مثل هذه في الرواية:

“... لكن صوتًا صاعدًا من صميم قلبه قال له إنه عندما يحل الخلاء بالأرض، فإنها تمتلئ بدفقات الرحمن ذي الجلال”، أو عبارة أخرى تقول:

“واشتبك في أحاديث صامتة لا نهاية لها مع ماضيه.”

* في الرواية أيضًا (أحلام) كثيرة تتجسد للأبطال، ويستجيبون لصوتها كما استجاب إبراهيم عليه السلام لما جاء في الحلم كأنه أمر حقيقي واقعي. وفي الحرافيش عدد من الأحلام لا مثيل له - كمًّا ونوعًا – في أي رواية أخرى من روايات نجيب محفوظ، وهذه الأحلام كلها ينبوع صافٍ غزير من ينابيع الشعر الجميل.

* في الرواية حركة يمكن أن نسميها باسم (المطاردة)، فكل الأبطال مطاردون بالأوبئة أو بالشر أو بالموت أو بالغدر والخيانة أو بنزوات الجسد... وهذه المطاردة تقضي على الإحساس بالأمن، وتفجر نبعًا آخر من أصفى ينابيع الشعر.

* في الرواية محاولات للبحث عن المستحيل والوصول إليه، مثل حلم (جلال) بالخلود، حيث أقام مئذنة كبرى (لا جامع لها)، وتصور أنها تحميه من الموت وتمنحه الخلود... ولكنه مات في آخر الأمر ميتة الكلاب...

وفي هذا الحلم بالمستحيل نبع آخر من أصفى ينابيع الشعر.

... وكما قلت في البداية، فإن هذه الرواية مليئة بالشعر، وهي حقًّا مزامير نجيب محفوظ.

الاكثر قراءة