الأحد 17 اغسطس 2025

مقالات

في مسرحية «حكاية بلا بداية ولا نهاية» لنجيب محفوظ لمن السلطة في الحارة المصرية؟!

  • 16-8-2025 | 14:03
طباعة

كتب «نجيب محفوظ» مجموعته القصصية «حكاية بلا بداية ولا نهاية» ونشرها عام 1971. وبعد أربعة عشر سنة – وتحديداً عام 1985 - حوّلها «المسرح الحديث» برئاسة مديره الفنان «محمود الحديني» إلى نص مسرحي من أجل عرضه على المسرح، وقام الحديني بالاتصال بنجيب محفوظ وطلب منه الموافقة على عرضها بعد أن أخبره بأن المسرحية هي الحوار فقط الموجود في القصة، فوافق نجيب على ذلك. وبعد أسبوع من الاستعداد للبروفات والعمل على النص، قام بعض المتطرفين بأعمال تخريبية هنا وهناك، فاتصل محفوظ بالحديني لتأجيل العرض كون الوقت غير مناسب لعرض موضوع المسرحية!! وتم التأجيل إلى وقتنا هذا ولم تُعرض المسرحية!! هذا ما ذكره محمود الحديني في إحدى ندوات اتحاد الكُتّاب في ديسمبر 2024.

بعد سماع هذه القصة بحثت في مقتنياتي الخاصة لأجد مخطوطة هذه المسرحية التي لم تُعرض ولم تُنشر حتى الآن، ومرفق بها كافة وثائقها الرقابية التي تحكي قصة المخطوطة!! فهذه المسرحية المكتوبة بخط اليد في «44» صفحة عام 1985 مكتوب على غلافها أنها من تأليف نجيب محفوظ وإخراج «عادل زكي»، وتدور أحداثها في الحارة المصرية!! وللأسف رفضت الرقابة المسرحية التصريح بعرض النص، وجاء الرأي في أحد التقارير الرقابية هكذا: "المسرحية تعرض لنا حياة قطب من أقطاب طريقة دينية، لكنها لم تعرض العرض السليم برجل متدين صالح قدوة لنا جميعاً خال من كل عيوب تشوبه. كذلك سلالته أو ذريته لم تظهر منها ما يبشر بخير من التربية الدينية والبيت الديني الذي تربوا فيه. لذلك أرى عدم ترخيص المسرحية لأنها تمس حياتنا الدينية والقدوة الدينية لنا، والتشهير برجال الدين". والنتيجة الطبيعية المنتظرة هو عدم التصريح بعرض النص، ولكن اسم المؤلف «نجيب محفوظ» له مكانته وقيمته، وستكون فضيحة كبرى لو تم رفض لمسرحية ألفها نجيب محفوظ، ويرغب مسرح من مسارح الدولة في عرضها!! لذلك أحالت الرقابة النص إلى «المستشار الديني» ليبت في الأمر، ربما يجد مخرجاً لإجازة النص ورفع الحرج عن الرقابة، حتى لا يُقال بأنها رفضت نصاً ألفه نجيب محفوظ، ويرغب مسرح الدولة في عرضه!!

كتب «المستشار الديني» تقريراً، قال فيه: "الموضوع: تتعالى الهتافات، وتتصاعد الأناشيد والأذكار حول ضريح الشيخ الأكرم شيخ الطريقة الأكرمية، ويتابع ذلك ابنه وخليفته الشيخ محمود الأكرم باهتمام بالغ ملؤه العجب والخيلاء. لكن يعارض هذا مجموعة من الشباب الجامعي من هذا الحي فيتصدون لهم ويسخرون منهم ويستهزئون بهم، مما لفت إليهم نظر «الشيخ محمود»، فأصر ذلك في نفسه وأوعز إلى السلطات بالقبض على زعيمهم ورئيسهم «علي عويس» لكن ذلك لم يثنهم عن عزمهم، ولم يعقهم عن إصلاح ما أفسده الشيخ محمود والعمل على نقيض ما هو قائم في حارتهم التي بها هذا الضريح كالتناقض بين شعار الزهد والورع الذي يظهره الشيخ محمود وبين جمعه للنذور وبناء العمارات بها. ويُفرج عن علي عويس ويقوم وزملاؤه بتوزيع المنشورات ضده مبينين فيها حقيقة هذه الطريقة وسلوك شيخها الأكرم وسلوك أسرته وأنه جاء هارباً من إحدى البلاد بعد ارتكابه لجريمة شنعاء. وأن أخته عشقت أحد الجنود الإنجليز وارتدت عن دينها وهربت معه إلى إنجلترا وأن ابنته المتزوجة بالصعيد قد ارتكبت الفاحشة مع خادمها إلى غير ذلك من التشهير به وبطريقته وبأسرته، وتوزيع هذه المنشورات. وتقم الحارة كلها فيهتز فيها كيان الشيخ محمود ويفكر فيما عساه أن يفعله، فيأخذ رأي الشيخ عمار حيالها، الذي يخفف عليه آلامه، ويسري عنه من ورطته، وأنها سحابة صيف عن قريب تنقشع، لكن ذلك كان شغل الشيخ محمود الشاغل فأخذ يهدد هؤلاء الشباب المعارض من سوء عاقبة ما يقومون به، وما يقدمون عليه وأن في استطاعته إيقاف الأرض عن الدوران وتحطيم الجماجم المعارضة له بآلاته الحادة وبسواعد مريديه القوية العاتية. فيستدعى الشيخ الصناديقي ذلك المريد القديم الذي انقطع عن الطريقة وهو صاحب القلم ومؤلف الأناشيد والأذكار للطريقة الأكرمية للرد على هؤلاء الشباب المعارض، لكنه لم يجد منه الأذن الصاغية والقلب المتفتح بعد أن صرح له بأنه لم ينقطع عن الطريقة إلا بعد أن آلت إليه وبعد أن لم يبق معهم الطريقة إلا اسمها وجمع النذور وبناء العمارات فيها وأنه يورثهم فيما يرثونه وما يقومون به وأنه لم استقام ومشى على الطريقة لما وصل إلى ما وصل إليه من سوء الحال. وأن ما نشروه قد أخذوه من مصادر موثقة بدار الكتب مأخوذة من مريدين قدامى للطريقة الأكرمية. فيزداد بذلك قلق الشيخ محمود وتوتره. ويقرر أنه سيخوض المعركة لينقض على هؤلاء المارقين الخارجين، المجرمين المعارضين. الحاقدين عليه لما هو فيه من مال وجاه. والذين يريدون قلع هذه الطريقة من جذورها، والتخلص منها. ويأتي «علي عويس» للشيخ محمود بمنزله شاكياً له مريديه وأتباعه الذين ضيقوا عليه وعلى زملائه الحصار وأنهم يطاردونهم ويلاحقونهم في كل مكان. فيتحدثان ويتصارعان ويكاد أن يقضي عليه لولا أن أدركه خدمه وحراسه. وتأتيه «زينب» أخت «علي عويس» لتسأل عن أخيها عنده بعد أن سمعت ما يدبره له، وتكلمه بلطف ولين في أن يكف حراسه عنه لكنها لم تجد منه سوى التوعد والوعيد مما اضطرها إلى تحول ما لا يحب أن يكون منها، وأنه ابنه غير الشرعي حملت به أمه منه سفاحاً، وأنه والده. وهنا أدرك الشيخ محمود أنه أمام أمرين لا ثالث لهما: إما الهرب إلى إحدى البلاد الأجنبية ليباشر فيها نشاطه الفاسد بقية عمره وإما أن يعترف لعلي عويس بالحقيقة والاعتذار له. وقد استعمل الحكمة في ذلك، فاعترف لعلي عويس بالحقيقة المُرّة وأنه ابنه غير الشرعي وأنه والده وسيكون الخليفة له من يعده. وأنه في انتظار رده عليه. ويطرق «علي عويس» ملياً ويفكر في هذه الحقيقة التي لم يستطع هضمها. ثم يصدر رأيه ويفلح الشيخ محمود في ضمه إليه وجذبه نحوه ليكون عوناً له على الأيام وعلى المعارضين له في مواجهة حياة جديدة تكفل للطريقة بقاءها واستمرارها".

ويختتم «المستشار الديني» تقريره برأي قال فيه: "الرأي: أرى رفض هذه المسرحية، لما فيها من التشهير برجال الطرق الدينية بعد أن وصف المؤلف فيها: «الأكرم» شيخ الطريقة بأنه جاء هارباً من إحدى البلاد بعد ارتكابه لجريمة شنعاء. وأن «أخته» قد ارتدت عن دينها، وعشقت أحد جنود الإنجليز وهربت معه إلى إنجلترا. وأن «ابنته» المتزوجة بالصعيد ارتكبت الفاحشة مع خادمها.

وأن ابنه «الشيخ محمود» والخليفة من بعده كان منحل الأخلاق كذلك وجاء بابن غير شرعي، ولم يكن له من هم سوى جمع النذور وبناء العمارات منها. لهذه الأسباب مجتمعة أرى رفضها".

وقعت الرقابة في «حيص بيص»!! فها هو المستشار الديني يرفض النص، ليصبح الرفض أمراً لا مناص منه، بعد أن رفض النص الرقباء الثلاثة المعتمدون وأيضاً رأي المستشار الديني!! ولكن تظل الإشكالية كما هي.. النص مؤلفه «نجيب محفوظ» ومسرح الدولة يريد عرضه!! مما يعني أن الرقابة يجب أن تتصرف وتوافق على النص بأية وسيلة ممكنة، حتى ولو بالتحايل على القوانين والأعراف الرقابية!! ماذا فعلت الرقابة؟! جاءت برقيب رابع وطلبت منه أن يكتب تقريراً يوافق فيه على النص بدون أية ملاحظات!! وبالفعل كتب الرقيب الرابع تقريره متجنباً فيه أغلب الأحداث والملاحظات التي اعتمد عليها بقية الرقباء ورفضوا النص بسببها، قائلاً:

"الموضوع: تدور أحداث المسرحية حول بيت من بيوت الطرق الصوفية «بيت الأكرم» إلا إن أهل الحارة الطيبة تعلو بعض أصوات شبابها المتحمس للتغيير. ويتزعم هذه المجموعة شاب يدعى «علي عويس» فيتصدى للإمام الشيخ «محمود الأكرم» حفيد الأكرم قطب الطريقة، ويحدث الصراع ويبدأ كلا الفريقين في إشاعة فضائح وإشاعات حتى أن الشيخ «محمود الأكرم» يدافع عن ثروته ومجده التي جمعهما من خلال النذور.. يدافع بأن يسفه من شأن «علي عويس» ويذكره بضعة نشأته. حتى تحدث المفاجأة وتحضر زينب أخت علي عويس لتكشف النقاب عن حقيقة زلزلت كيان الإمام محمود الأكرم، فعلي هذا هو ابنه منها وليس أخيها وتذكره بما كان بينهما من ماض. ويقرر الإمام الاستغناء عن ثروته للفقراء ليبدأ حياة نقية جديدة. والمسرحية عموماً تناقش قضية الجدل بين نظرة المريدين للطريقة الأكرمية الصوفية التي اتضح أن بها بعض نقاط ضعف وبين شباب الجامعة الذي تلقى العلم ويريد التغيير ورفع البؤس عن كاهل أهل الحارة الطيبة. «الرأي»: لا مانع من التصريح بعرض المسرحية في بيت المسرح الحديث، التابع لوزارة الثقافة حيث لا يوجد بها مخالفات رقابية".

أخيراً وصلت الرقابة إلى غرضها، ووجدت سنداً تتكأ عليه لتمرر الترخيص بالنص!! ولكن ماذا يفعل هذا التقرير «الوحيد» أمام ثلاثة تقارير بالرفض، وتقرير المستشار الديني بالرفض أيضاً؟!! هذه مشكلة تحتاج إلى عقلية رقابية فذة!! وبالفعل ظهرت هذه العقلية في شخصية الرقيب الأول الذي قرأ جميع التقارير السابقة، وقرأ النص، وكتب تقريراً «نهائياً» قال فيه:

"المسرحية من النوع الرمزي، والوصول إلى معناها الحقيقي، ربما كان مستحيلاً لصعوبة الربط بين الواقع والرمز من جهة، ولاستحالة التفسير الواحد من جهة أخرى. لهذا فيمكن النظر إلى هذه المسرحية على عدة مستويات، ولعل المستوى الواقعي هو أدناها وأبعدها عن الغرض الذي من أجله كتبت المسرحية، مما حدا بأغلب السادة الرقباء إلى رفضها. وأظن أنه لا يستطيع قارئ أو متفرج أن يجزم بما تقوله هذه المسرحية، إذ إنها كتبت في مرحلة الرمز في أعمال نجيب محفوظ، وهي المرحلة التي تلت هزيمة 1967 مباشرة، حيث اختلطت الأمور ولم يعد أحد يستطيع أن يدرك أو يفهم ما الذي حدث في هذه الحرب الخاطفة والتي انتهت باحتلال جزء من الوطن. ولما لم تكن الكتابة الصريحة المباشرة ممكنة، فقد لجأ أغلب الكُتّاب إلى التلميح دون التصريح، وهذا ما ألجأ الأستاذ نجيب محفوظ إلى هذه المعالجة في هذه المسرحية، الشكل الواقعي ولكن المضمون رمزي. ولست في حلٍ من تفسير بعض رموزها، وإن كان من حقي الاجتهاد. فإذا اتفقنا بادئ ذي بدء على أن الإسلام ليس فيه رجل دين بالمعنى المسيحي أو اليهودي فإن من يسمونهم في الإسلام برجال الدين لا يزيدون عن كونهم بشراً عاديين ليس لهم أية قداسة أو عصمة أو امتياز، مما يجعل التعرض لهم أمراً ممنوعاً أو محرماً. وما دمنا قد أوضحنا ذلك بأنه من الممكن أن يخطئوا بل وأن يتردوا في الخطيئة إلى درجة الإسفاف، دون أن يكون في ذلك أي تعريض بالدين. لهذا فإني أرى أن رفض هذه المسرحية لتعرضها لرجال الدين، أمراً لا يجوز، حيث إن إقامة ذكر أو وقوع الجريمة على يد أحد هؤلاء لا يعني إطلاقاً أن ذلك يُعدّ تعريضاً بالدين. حيث إن إقامة الذكر ليس من صلب الدين ولم يرد في القرآن أو السنة أو الحديث وأن الآية القرآنية الكريمة التي تقول «اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» فالمقصود بكلمة ذكر هنا إنما هو العلم. أما بالنسبة لتفسير الرمز، فإن من الرموز ما يغمض وقد يظل مجهولاً. ومنها ما يمكن الوصول إليه من ذلك أنني أرى أن ما قصد بهم رجال الدين هنا إنما هو ذلك الشعب الذي غاب عن وعيه وعاش في لهو وحفلات وإذاعات وأغانٍ ظناً منه أن ذلك قد يهزم العدو، غير منتبه إلى المؤامرات التي تحاك من حوله حتى انتهى ذلك كله بالنكبة التي وقعت. أما مسألة السفاح وعدم الشرعية، فأظن أن ما حدث في ساحة الحرب من الجري والفر ربما يحمل في معناه أن الذي لا يدافع عن وطنه يمكن اعتباره «ابن حرام». والاستطراد في هذا التفسير سيجعل من المسرحية وثيقة تاريخية سياسية، ولا علاقة لها على الاطلاق، بكل ما جاء في تفسير وفهم النص على لسان السادة الرقباء. وكذلك السيد المستشار الديني. على أن النظر إلى المسرحية على هذا المستوى الساذج سيجعل منها عملاً لا قيمة له على الإطلاق، بل خالٍ من المعنى تماماً، وهذا ما يخالف الواقع تماماً، إذ إن المسرحية بشيء من التركيز والوعي لما تقول، ربما اكتشف القارئ أو المتفرج ما ترمي إليه. عندئذ ستكون تلك الموانع التي ذكرها السادة الرقباء لا معنى لها، بل لا موضع لها. لهذا فأنا أرى أن هذه المسرحية تشكل قيمة أدبية وسياسية عالية، كما أنها قد سبق نشرها في جريدة الأهرام ثم في كتاب، مما يجعل رفضها «تحصيل حاصل» ولو أنها فُهمت على هذا المستوى البسيط، لما التفت إليها رجال المسرح وفكروا في تمثيلها. والأمر متروك لسيادتكم للنظر في أمر الإجازة أو الرفض، بعد أن وضحت وجهة نظري فيها".

تنفست الرقابة الصعداء، فأخيراً وجدت مخرجاً لأزمة رفض نص لنجيب محفوظ، بحيث تخرج من المأزق بحل وسط، لا تتناقض فيه مع رفض إجماع الرقباء الثلاثة، ولا تخالف رأي المستشار الديني، وفي الوقت نفسه لا تصرح بالنص على الإطلاق، لذلك وجدت في «التصريح المؤقت» مخرجاً قانونياً مقبولاً ومرضياً للجميع، فأشر المدير العام بتأشيرة قال فيها تحت عنوان «إذن مؤقت»: "يُصرح بالنص على أن يحدد موعد بروفة كاملة قبل البروفة النهائية بأسبوع كحد أدنى للمشاهدة الرقابية حتى يتسنى الترخيص بالنص". وآخر وثيقة رقابية مرفقة بالنص كانت «إيصال استلام» مؤرخاً في يوم 23/12/1985، وهذا نصه: "استلمت أنا عادل زكي مخرج مسرحية حكاية بلا بداية ولا نهاية المقدمة من المسرح الحديث نص المسرحية بإذن ترخيص مؤقت".

والترخيص المؤقت –في عُرف الرقابة– لا يُعطى إلا للنصوص المسرحية المدرسية أو المهرجانية أو لعروض المناسبات.. إلخ، أي للعرض المسرحي الذي يُعرض لليلة واحدة أو ليلتين!! مما يعني أن الرقابة بدلاً من رفض نص نجيب محفوظ، ستقول إنها وافقت وأن المسرح لم يعرض النص، وبذلك ترمي الكرة في ملعب مسرح الدولة!! ومن المؤكد أن الرقابة اتصلت بنجيب محفوظ –بوصفه المؤلف– وطلبت منه صرف النظر عن عرض هذا النص في الظروف السياسية والاجتماعية وقتذاك، لذلك اتصل نجيب محفوظ بمحمود الحديني – مدير المسرح – لتأجيل العرض – كما أوضحنا من قبل - والذي تأجل من عام 1985 وحتى الآن!!