ما زالت ليالي وسهرات الرعاية محفورة في ذاكرتي، بكل ما فيها من مرارة وقسوة لكنها وعلى عكس المتوقع، كانت من أغرب فصول الضحك الذي ينتزع من قلب المعاناة، كأننا كنا نُهرب الابتسامة من بين أنين الأجهزة وصدى الأدوية.
في الجهة الأمامية من القسم، كان هناك شخص بصوت جهوري لا يخطئه أحد، تظنه في البداية من طاقم التمريض، أو ربما أحد أفراد الأمن، لكنه في الحقيقة مريض زينا بالضبط، الفرق الوحيد إنه قرر يكون رئيس قسم المزاج.
حول ركنه الخاص إلى صالة ألعاب، يجتمع حوله أصدقاؤه المرضى للعب الطاولة والدومينو، كأنهم في قهوة بلدي داخل وحدة عناية مركزة.
الغريب أن لا أحد اشتكى من صوته العالي أو ضحكاته المتقطعة بالعكس، "كانوا بيستنوا دوشته وكأنها جزء من العلاج".
وعندما يحين موعد الزيارة، كانت الرائحة تسبق الوجوه، طواجن ورق عنب، لحمة بالبصل، وزَفر طالع من العلب والحقائب، لم يكن يتناول الطعام وحده، بل يوزعه بحنكة سياسية على التمريض، فيتحول الممنوع إلى مسموح، وتتلاشى التعليمات في مقابل لقمة طرية.
لكن في صباح اليوم التالي، اختفى الصوت لم أسمع صياحه المعتاد، ولا دبدبة ضحكاته، ولا حتى صراع الطاولة، سألت عنه كما فعل آخرون.
جاء الرد من الممرضة، ببرود وسخرية طبية معتادة "واحد متعشي لحمة بالبصل... هيقعد في الرعاية معانا يهبب إيه؟!"
ضحك القسم كله، ضحك لا يشبه الفرح، لكنه يشبه محاولة النجاة، تحولت الرعاية إلى خشبة مسرح، وكل مريض ممثل مؤقت في مسرحية أضحك قبل ما المونيتور يسكت.
رحل صاحب الصوت، وبقيت القهقهة معلقة في الجدران، تخفي خلفها كل الوجع.