تأتي خطبة صلاة الجمعة، اليوم، تحت عنوان:"إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها"، حيث تستهدف التوعية بطرق وأسباب تنمية الفكر عامة والفكر النقدي خاصة.
وفيما يلي نص خطبة الجمعة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ غَافِرِ الذَّنْبِ، وَقَابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقَابِ، ذِي الطَّوْلِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، نَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ الْهُدَى وَالرِّضَا وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى.
ونَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ونَشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، صَاحِبُ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَبَعْدُ:
فإن سيرةَ الجنابِ المعظَّمِ صلواتُ ربي وسلامه عليه منهجُ رُشدٍ يُقتدى، ونبراسُ نورٍ يُهتدى. فلقد كان صلى الله عليه وسلم مُعلّمًا للأفهام، ومربيًا للأنام، فتح البابَ أمام عقول أصحابه للاجتهاد والتفكير المبدع؛ لتتحول إلى معارج رحبة للإبداع والارتقاء.
أيُّهَا الْمُكَرَّمُونَ، أرأيتُم كيف استخدم الجنابُ الأنورُ صلى الله عليه وسلم أسلوبَ جلسات العصف الذهني؛ ليخرجَ العقلُ منها أكثرَ إبداعًا، وأحدَّ تفكيرًا، وأعمقَ تحليلًا، وأشدَّ تمييزًا للحق من الباطل، لا يُسلّم لما هو سائد، وهذا هو جوهر التفكير النقدي.
فهذا هو صلوات ربي وسلامه عليه يقول يومًا لأصحابه الكرام رضي الله عنهم:
«إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟»
فوقع الناسُ في شجر البوادي المتناثر، ووقع في نفس عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما أنّها النخلةُ ذاتُ الثمر، فقالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: «النخلة»؛ لتكون الإجابة مقرونة بهذا التشبيه العظيم الذي يبرز المسلم الحقَّ في صورة النخلة في دوام نفعه واجتهادِ سعيه، فلا يتوقف خيره ولا يسقط ورقه، بل يبقى شامخًا مثمرًا راسخًا على الحق والإيمان والاستقامة.
أيَّتُهَا الأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ، تأملوا كيف شجّع النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإبداع والتفكير النقدي، وتمثلوا هذا المشهد المبهر حينَ أرسل صلوات ربي وسلامه عليه معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن، فسأله: «بمَ تحكم؟» قال: بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد؟» قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فإن لم تجد؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو. ففرح النبيُّ صلوات ربي وسلامه عليه بذلك أيما فرح، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله».
إنّها فرحة عظيمة حين رأى نبيُّ العلم والفكر أحدَ أصحابه وهو يبدع في شرح طريقة التفكير القويم والنظر العليم.
أيها الناسُ، إنّ التفكيرَ يعيد الإنسانَ إلى رُشده ويردُّه عن غَيّه، تأمّلوا كيف تعامل الجنابُ المعظَّمُ بلغة الحوار الهادئ والتفكير المتّزنِ مع شاب طغت الشهوةُ على عقله فمنعته التفكير. يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ ليقول له عجبًا: يا نبيَّ الله، أتأذنُ لي بالزنا؟ فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يستثيرُ فكرَه وغيرتَه وإنسانيته: «أتحبُّه لأمِّك؟ أتحبُّه لابنتِك؟ أتحبُّه لأُختِك؟» وهو يقول في كل مرة: لا، جعلني اللهُ فِداك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذلك الناسُ لا يُحبُّونه». ثم وضع يدَه على صدره وقال: «اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجَه». فعادَ الشابُّ إِلى رُشده.
أيُّهَا الْكِرَامُ، اغرسوا في نفوس أولادكم أنّ لغةَ الحوار الهادئ، والتفكير المنضبط، والدعوة الصادقة، تنتج خطابَ الرحمة الذي يبني الإنسانَ ويصنع الحضارة.
علّموهم أنّ ديننا الحنيف دينُ فكرٍ ومعرفةٍ ونقدٍ وتحليل، وأنّ الشخصية الواعية إنّما تنمو إذا سُقيت بماء العلم والهداية، لا الجهالة والضلالة. اجعلوهم يقرأون هذه الآياتِ بروح جديدة ونفوس واعية:
{أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ}، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فيا عبادَ الله، إن أرواحَنا أمانةٌ عظيمة، ومسؤولية جسيمة، عبّر عنها البيانُ الإلهي في قوله سبحانه:
{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
فهذه الآيةُ ليست مجرد وصيّة، بل هي نداءٌ كوني، يتردّدُ صداه في أعماق كل نفس، يهمس في شغاف القلوب بأنَّ حفظَ النّفس جوهرُ البقاء، وركيزةُ البناء. إنّها دعوة لأن نكون أمناءَ على هذا الجسد، وأن نحفظَهُ من كلّ ما يؤدّي إلى إتلافه أو تعريضه للهلاك، سواء أكان ذلك بطريقِ الانتحار نتيجةَ الاكتئاب أو الفشل أو ضغوط الحياة، أم عن طريق القيادة المتهورة التي تزهق الأرواح على الطرقات.
أيُّهَا الْمُكَرَّمُ، هل أنت مستعدٌّ لحفظ نفسك وجسدك وعقلك وروحك؟ لقد رسمَ لنا الجنابُ المعظم صلى الله عليه وسلم خارطةَ طريقٍ واضحةٍ بنور كلماته التي لا تخبو، حينَ قال: «لا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». فهذه القاعدة الذهبية فلسفةُ حياةٍ متكاملة، تضعُ حدًّا لكلّ ما يمكن أن يشوبَ نقاءَ الروح، أو يهلكَ الجسد، أو يُفسدَ العقل من مخاطر محدقة أو سمومٍ خفية تتسلل إلى صحتنا الجسدية والنفسيّة، مرورًا بالإهمال الذي يفتك بمواهِبنا وقدراتنا.
فحفظُ النفس يعني أن نكون يقظين، معتنين بصحتنا، وعقولنا، وأرواحنا. فلنجعل أيّها الكرام من حياتِنا مشروعًا خالدًا بجمال الصون والعناية والاهتمام، ولنتعاهد أرواحنا بالصفاء، وأجسادنا بالصحة، وعقولنا بالنور، لنكن قصةَ نجاحٍ ملهمةً يتحدثُ عنها العالم، فنحظى برضا خالقنا وسعادة دنيانا وآخرتنا.
اللهم احفظ بلادَنا مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وابسُط فيها بِساطَ الرزقِ الوفيرِ والبركةِ العظيمة.