تفتحت أعيننا على مطبوعات “دار الهلال” المختلفة، وكان من أبرزها “مجلة الهلال” التي كتب فيها أدباء مرموقون لهم سمعة طيبة في مجالات متعددة. نذكر من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر: طه حسين، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، خليل مطران، كمال النجمي، عباس محمود العقاد، توفيق الحكيم، زكي طليمات، نجيب محفوظ، فكري أباظة، أحمد بهاء الدين، وغيرهم كثير.
ولا شك أن "كتاب الهلال" لا يقل أهمية عن تلك المجلة الرصينة. وقد اخترت أن أحتفي بهذا الكيان العظيم من خلال تصفح كتاب أضعه في ركن خاص ضمن الكتب المميزة في مكتبتي الصغيرة ببيت مستأجر بحي أول مدينة دمياط.
الكتاب هو: "عصاميون عظماء .. من الشرق والغرب" بأقلام نخبة من كبار الكُتّاب، وقد أشرف عليه محمد فريد أبو حديد. وتحت الترويسة إشارة إلى أن "كتاب الهلال" سلسلة شهرية تصدر عن مؤسسة "دار الهلال"، العدد رقم 35، فبراير 1954، جمادى الأولى 1373هـ. وكان رئيس التحرير طاهر الطناحي.
حصلت دار الهلال على حق نشر الكتاب باتفاق خاص مع مؤسسة "فرانكلين" للطباعة والنشر (القاهرة ـ نيويورك). أما الكتاب الأصلي فهو من تأليف سارة بولتون (1841 ـ 1917)، وصدر لأول مرة عام 1885.
يتحدث محمد فريد أبو حديد في مقدمته عن أن الحياة ـ رغم قِدمها ـ تتجدد دائماً لكل جيل من الأجيال المتعاقبة، وأن الآفاق المشرقة تتجلى باستمرار لكل من يريد أن يرتاد مطالعها، مادامت النفوس تحتفظ بالجذوة التي وهبها الله للجديرين بالحياة.
ويضيف أبو حديد بنبرة حادة: "لقد مضى علينا دهر ـ نحن معاشر الشعوب العربية ـ كنا فيه، ويا للأسف، نخبط في حياة مزيفة. كان ميدان الحياة عندنا مسرحاً للميول التافهة والأوهام السخيفة، وكانت عوامل الطغيان والفساد والخمول تسيطر علينا، وتجرفنا عن جادة العدالة. وكان نظام مجتمعنا نتيجة لهذه الحياة المزيفة قائماً على حدود ظالمة، وامتياز طبقة من الأمة على ما سواها، فبعدت كل أحوالنا عن العدالة".
ويستطرد الكاتب: "ولكننا، بحمد الله، قد نجونا من الهوة التي كان ذلك العهد المظلم يسوقنا إليها، وأخذنا في سبيل تحطيم الطغيان والفساد، وعقدنا العزم على أن نفتح ميدان الحياة على مصراعيه، ونبيحه لكل من يريد أن يجول فيه".
ثم يدخل بنا صاحب المقدمة إلى الهدف مباشرة: "لقد عرضت عليّ في الشهور الأخيرة فكرة جيدة وجدتها تلائم وجهتي وفكرتي. ذلك أن مؤسسة فرانكلين المساهمة الأمريكية طلبت إليّ أن أشرف على إخراج كتاب باللغة العربية، ينفع الشباب بما فيه من أمثلة على الكفاح في الحياة والتفاني في تحقيق غاية نبيلة. واقترحت عليّ ترجمة كتاب "حياة أولاد فقراء صاروا من المشاهير"، وهو من الكتب القليلة التي لقيت نجاحاً عظيماً في أمريكا وسائر أقطار الأرض، ولا سيما بين قراء الشباب".
الجزء الأول من الكتاب "عصاميون من الشرق" ـ يخص الطبعة العربية ـ بدأ بالسياسي سعد زغلول. تحدث عنه العلامة عباس محمود العقاد في مقال بعنوان "عظيم، كل حياته عصامية".
عن محمد طلعت حرب كتب الأستاذ محمد رشدي، عضو مجلس الإدارة المنتدب لبنك مصر، مقالًا بعنوان "زعيم الاقتصاد المصري".
عن علي مبارك، كتب الأستاذ محمد فريد أبو حديد ـ معد الكتاب ـ مقالًا بعنوان "المعلم المصري الأول".
وكان من الطبيعي أن يوضع جرجي زيدان في قائمة أكثر العصاميين تأثيرًا، كتب الأستاذ طاهر الطناحي مقالًا عنه تحت عنوان "العصامي الموهوب".
اهتم الكتاب أيضًا بجوانب أخرى غير السياسة والفكر والثقافة والاقتصاد، لذلك كان اختيار الدكتور علي إبراهيم موفقًا، وقد كتب عنه الدكتور سعيد عبده مقالًا بعنوان "زعيم النهضة الطبية الحديثة".
وبالطبع كان من المناسب الاتجاه لتيار شعراء المهجر، فاختار الأستاذ عادل الغضبان أن يكتب عن جبران خليل جبران مقالًا بعنوان لافت "الفنان الخالد والأديب المبدع".
اختير سليم تقلا للحديث عن نبوغه في مجال الصحافة، فهو الذي أسس جريدة "الأهرام" بعد الحصول على امتياز الجريدة عام 1875. المقال جاء بعنوان "الصحافي العصامي"، حرره الأستاذ طاهر الطناحي.
وفي مقدمة التعريف بالشاعر حافظ إبراهيم جاء ما يلي: "شاء القدر أن يبدأ "شاعر النيل" مواجهة الأحداث ومقاومة الخطوب، وهو لم يتجاوز العام الرابع من عمره، فقد ذاق في طفولته وشبابه ما ذاق من بؤس وصعوبات وتشريد". المقال بعنوان "شاعر النيل"، حرره أيضًا الأستاذ طاهر الطناحي.
أما في مجال الغناء فقد جاءت المقدمة كالتالي: "إذا استطاع إنسان أن يحقق في جو الإبداع والابتكار في مثل البيئة التي عاش بها الناس في خاتمة عصر المماليك، كان هو المعجزة حقًا.. وكان هو "عبده الحامولي". وجاء المقال بقلم رشيق للدكتور محمود أحمد الحفني بعنوان "زعيم الغناء في الشرق".
مقدمة الشخصية العصامية التالية جاءت على هذا النحو: "بنى بيديه صرح مجده وغذاه لبنة لبنة حتى سمق وعلا، وكان من الصروح الممردة المنيفة التي يزهو بها الشرق العربي ويباهي". والمقصود هنا: "سمعان صيدناوي"، والمقال بعنوان "المغامر الشريف"، والمحرر عادل الغضبان.
الجزء الثاني من الكتاب، تضمن "عصاميون من الغرب" وجاء في مقدمة التعريف بالشخصية الأولى: "العصامي الذي يسر سبل الحياة ووهب للناس من آيات العلم ومنتجات آثاره، ما رفه عنهم وغمرهم بالخيرات والبركات". المقصود بهذا الكلام "توماس إديسون" وعنوان المقال "العالم العصامي".
"تشارلز ديكنز" هو الشخصية التي تضمنها مقال بعنوان "عبقري صنعه الفقر"، وجاء في المقدمة: "عجزت أسرته عن إلحاقه بالمدرسة، فبقي حتى التاسعة من عمره لا يعرف القراءة والكتابة، ومع ذلك فإنه لم يكد يبلغ الرابعة والعشرين حتى كان الناشرون يتسابقون إلى التعاقد معه لإمدادهم بقصصه".
"الشقيقان رايت"، اختيرا معًا في سجل الشرف والعصامية مع هذه المقدمة: "حققا لأول مرة معجزة الطيران الآلي.. ولكنهما قوبلا بالجحود، فلم يثبط ذلك عزمهما، وانصرفا إلى تحسين الآلة الطائرة التي اخترعاها حتى قطعا بها أكثر من 24 ميلًا".
الشخصية التالية "جورج كارفر"، هو "الزنجي النابغ" الذي "خرج إلى الحياة محرومًا من كل شيء، ولكنه استطاع بالرغم من ذلك أن يخلد اسمه في سجل العلماء الذين قدموا للبشرية أجلّ الخدمات"، واستطاع أن يكشف في معمله كثيرًا من الخواص التي كانت مجهولة للمحصولات الزراعية.
"إبراهام لنكولن" هو الشخصية التالية، إنه "الفلاح الذي امتحنته الأقدار ـ وهو ما زال صبيًا ـ بألوان مختلفة من الشقاء والحرمان، ولكنه استطاع أن يشق طريقه بين الأشواك، وأن يصبح رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية".
"بنيامين فرانكلن" هو الناشر العبقري. "اتخذ لنفسه منذ صباه شعارًا هو: أن يعمل ويتعلم، وكثيرًا ما آثر أن يبيت طاويًا ليشتري كتابًا جديدًا يقرؤه بدلًا من طعام العشاء".
"الأخوان مايو" عُرفا في مجال الطب الحديث، "كان لنجاحهما الباهر في كثير من الجراحات المبتكرة المعقدة صدى عميق في نفوس كثيرين، حتى لقد راجت عن نجاحاتهما حكايات كثيرة أشبه بالأساطير".
نتوقف قليلًا مع "مخترع أول آلة بخارية" وهو العالم "جيمس وات"، يُذكر أنه "واصل جهده صابرًا على التعب والمرض والفقر حتى أصبح لعظمته وعبقريته العلمية يعد أعجب رجل أنجبته إنجلترا".
لا تتوقف سلاسل العباقرة، فنحن هنا مع "ميشيل فارادي" موزع الصحف الذي صار أعظم عالم! ".. فقد بدأ أبحاثه في "المغناطيسية الكهربائية" إلى أن وُفق إلى ذلك الكشف الخالد الذي أثبت به أن المغناطيسية تنتج الكهرباء".
أما آخر العصاميين الغربيين فهو "جوسيبي غاريبالدي" الذي وُصف في الكتاب بأنه "الصياد الذي حرر إيطاليا!".
من المتن: "أخيراً.. قُدِّر لأحلام غاريبالدي أن تتحقق فجأة، فحاقت الهزيمة بجيوش نابليون الثالث في "سيدان"، وانسحبت الفرقة الفرنسية من روما، فدخلها الملك فيكتور عمانوئيل دون أية مقاومة، وأعلنها عاصمة لإيطاليا".
"كتاب الهلال" الذي اتشح باللون الذهبي مع شريطين: علوي وسفلي باللون الأخضر، ضم تلك الوجوه المضيئة من الشرق والغرب، مع "رسوم كاريكاتورية" لم يُذكر اسم الفنان الذي قام بها.
ونحن في هذا العدد التذكاري، نُثمِّن كل الكتب التي شكَّلت وعي وثقافة أجيال سابقة علينا، وما زلنا نقرأ هذه الكتب باستمتاع ووعي وإدراك أن الأمم الفتية هي التي تستفيد من التجارب السابقة لتكون أصلب عوداً، وأشد مراساً، وهو ما ينطبق دون شك على مصر التي هي بحق "فجر ضمير البشرية".