مع حلول ذكرى المولد النبوي الشريف، تعود الذاكرة إلى رجال وهبوا أقلامهم ومواهبهم حبًا في خير الأنام، محمد، صلى الله عليه وسلم، ومن بين هؤلاء العاشقين يبرز الإمام البوصيري، شاعرًا ووليًا ومادحًا، ارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بفن المديح النبوي، وترك أثرًا لا يُمحى في الوجدان الإسلامي من خلال قصيدته الشهيرة "البُردة"، التي تجاوزت حدود الشعر التقليدي، لتصبح إحدى العلامات الفارقة في المديح النبوي، وتغنى في حلقات الذكر، وتُستعاد كل عام في مثل هذه المناسبة المباركة.
وبين صفحات التاريخ الإسلامي، تبرز قصة استثنائية لشاعر مصري عظيم، عاش في نهاية العصر الأيوبي وبداية المملوكي، فترة انتقالية مليئة بالتحولات السياسية والثقافية، و حوَّل محنته الشخصية إلى خالدة شعرية، ومرضه إلى شفاء، وكلماته إلى نبع لا ينضب من المحبة النبوية إنه الإمام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري، صاحب «البردة المحمدية» التي طافت بها الأصوات في كل بقاع العالم الإسلامي، وما زالت حتى اليوم تتردد في المساجد والمحافل، تحمل في ثناياها عبق المحبة وعطر الإيمان.
وفي هذه الأيام المباركة، حيث تتجدد ذكرى مولد سيد البرية صلى الله عليه وسلم، نستذكر هذا الشاعر الذي جعل من قلمه مصباحًا ينير دروب المحبين، ومن أبياته جسرًا يصل القلوب بالحبيب المصطفى، فكيف استطاع رجل أصابه المرض أن يحول ألمه إلى أجمل المدائح؟ وكيف تحولت قصيدته من دعاء شخصي إلى تراث إنساني خالد؟
هذا ما سنكتشفه معًا في رحلة عبر حياة «البوصيري»، من قرية «دلاص» الصغيرة في بني سويف حتى قبره المبارك في الإسكندرية، مرورًا بتلك الليلة المعجزة التي وُلدت فيها «البردة»، والتي غيَّرت مجرى الشعر العربي إلى الأبد.شاعر مصري كبير من القرن السابع الهجري، عُرف بمدائحه النبوية وخاصة قصيدتي «البردة» و«الهمزية»، وهما من أعظم ما قيل في مدح سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الميلاد والاسم والكنية
البوصيري «٦٠٨ - ٦٩٦ هـ / ١٢١٢ - ١٢٩٦ م».. هو أبو عبد الله: محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري، وكنيته: شرف الدين، أبو عبد الله، صاحب «البردة والهمزية» في مدح خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- وأحد أعلام القرن السابع الهجري.
يرجع نسب «البوصيري» إلى «صنهاجة» إحدى قبائل البربر المقيمة في صحراء جنوبي المغرب من قلعة حماد من قبيل يعرفون ببني حبنون، ونسبته إلى«بوصير» إحدى قرى محافظة بني سويف التي نشأ بها، وحفظ القرآن الكريم في صغره.
ولد «البوصيري» في يوم الثلاثاء أول شوال سنة 608 هـ - 1212م في قرية (دلاص) إحدى قرى محافظة بنى سويف، حيث كان أحد أبويه من «بوصير»، والآخر من «دلاص»، وكان هذا الزمن الذي ولد ونشأ في العصر المملوكي والأيوبي
عاش«البوصيري» في نهاية الأيوبي وبداية المملوكي، فترة انتقالية مليئة بالتحولات السياسية والثقافية، فالعصر الأيوبي (1171-1250م) هو عصر الجهاد والعلم، حيث حرر صلاح الدين الأيوبي القدس وازدهرت المدارس والمعاهد العلمية، ةولعصر المملوكي (1250-1517م): عصر القوة العسكرية والثراء الثقافي، شهد انتصارات حاسمة ضد المغول والصليبيين وازدهارا معماريا وأدبيا فريدا.
الرحلة العلمية لـ «البوصيري»
وانتقل «البوصيري» إلى القاهرة لطلب العلم، وتعلم العلوم الشرعية والعربية، وأتقن الأدب والشعر، فقال الشعر البليغ في جده وهزله، ونظم من جزله ومرذوله، وفصيحه وعامه.
وكتب «البوصيري» الرسائل البليغة، واتخذ الدواوين صناعة له، وتقلد عدة وظائف في القاهرة والأقاليم بالشرقية والإسكندرية
خصائص شعر البوصيري وأسلوبه
ويمتاز شعر «البوصيري» بالرصانة والجزالة، وحسن استعمال البديع في مدائحه النبوية؛ إلا أنه لم يحفل بهذه المزايا في غيرها، فجارى شعراء زمانه في أسلوبهم حتى في استعمال بعض الألفاظ المولدة والأهاجي المقذعة، ثم تنسك وتصوف.
قصيدة «البردة» وأثرها
ومن شعر «البوصيري» قصيدة البردة الشهيرة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، ووقع الإجماع على أنها أفضل مدائح الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد «بانت سعاد» ونحوها من مدائح الصحابة، رضي الله عنهم.
وقيل: إنه فُلِج (أُصيب بالشَّلل) فنظمها في مرضه وتوسل بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشفى من مرضه.
وأولها:«أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ»
الحِكم والمواعظ في «البردة»
ومن حكمه البديعة المشوبة بمحاسن البديع قوله:
«والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمــــه ينفطـــــــم
فَاصْرِفْ هَوَاهَا وَحَـــــاذِرْ أَنْ تُوَلِّيــــــــــَهُ إِنَّ الْهَوَى مَا تَوَلَّى يَصِـــــمْ أَوْ يَصُـــــم
وَرَاعِهَا وَهِيَ فِي الْأَعْمَـــالِ سَائِمَــــــــةٌ وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ الْمَرْعَــــى فَلَا تَسِمِ
كَــــــــــــمْ حَسُنَــتْ لَذَّةٌ لِلْمَـــــرْءِ قَاتِلـــــَةٌ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ فِي الدَّسَـمِ
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوعٍ وَمِـنْ شِبَعٍ فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَــــــــــرٌّ مِنَ التُّخَــــــــــمِ
وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْــعَ مِنْ عَيْنٍ قَــدِ امْتَلَأَتْ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزِمْ حِمْيَـــــــــةَ النــــــــَّدَمِ».
واتخذ شعراء المدائح النبوية هذه القصيدة نموذجًا ينسجون على منواله، فكانت من أقوى الأسباب التي حملت شعراء هذا العصر وما يليه على الإكثار من المدائح النبوية.
وكذلك اتخذ أصحاب (البديعيات) «البوصيري» مثالًا يحتذونه، فعارضوها بقصائدهم وزنًا وقافية، فلم يلحقوا بصاحبها غبارًا.
قصيدة »الهمزية»
وقصيدة البوصيري (الهمزية» في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تقل عن (البردة) في فصاحتها، وأولها:
كَيْفَ تَرْقَى رُقِيَّكَ الْأَنْبِيَــــــاءُ يَا سَمَاءً مَا طَاوَلَتْهَا سَمَــــــــاءُ
لَمْ يُسَاوُوكَ فِي عُلَاكَ وَقَدْ حَالَ سَنِيٌّ مِنْكَ دُونَهُمْ وَسَنَاءُ»
وله قصيدة أخرى على وزن (بانَت سعاد»، وأولها:
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسئول»
وقدم «البوصيري» «البوصيري» غير ذلك من القصائد التي تعبر عن حبه للنبي – صلى الله عليه وسلم- وبلاغته وقوة بيانه، رحمه الله رحمة واسعة.
رحيل وإرث يتجدد مع كل نفس
اليوم، وبعد مئات السنين من رحيل «البوصيري»، حيث توفي ّ سنة ست وتسعين وست مئة بالإسكندرية سنة 696 هـ - 1296م ودفن فيها، وقبره مشهور يزار حتى الآن وبه مسجد تقام فيه الشعائر والصلوات، ولا تزال كلماته تتردد في الأرجاء، وفي كل مرة ينشد فيها مُنشد «البردة »، وكلما استشهد عالم بأبياتها، وحين تهمس بها الشفاه في الصلوات والدعوات، يتجدد حضور«البوصيري»، ويستمر عطاؤه.
ولقد علمنا و«البوصيري» أن الشعر الصادق لا يموت، وأن الكلمة التي تنبع من أعماق القلب المحب قادرة على اختراق حجب الزمن واللغة والجغرافيا، بقي فينا ما تعلمناه من«البوصيري» أن المحبة النبوية ليست مجرد مشاعر، بل قوة حقيقية قادرة على الشفاء والتغيير والبناء.
«البوصيري» .. الإبداع الحقيقي يولد من رحم المعاناة
في نهاية المطاف، يبقى «البوصيري» مثالًا حيًا على أن الإبداع الحقيقي يولد من رحم المعاناة، وأن أجمل الكلمات تُكتب بمداد الألم المقدس بالحب، وفي ذكرى المولد النبوي الشريف، نستذكر هذا الشاعر الذي لم يكتفِ بحب النبي في قلبه، بل نثر هذا الحب في أبيات خالدة، ليصبح حبه الشخصي ملكًا لكل الأجيال.