الأربعاء 3 سبتمبر 2025

مقالات

قصائد على باب المصطفى

  • 3-9-2025 | 08:50
طباعة

من “بانت سعاد” إلى “البردة” و”نهج البردة” وغيرها، عاشت في الذاكرة والوجدان قصائد ومدائح نبوية خالدة، تذكر مناقب الرسول الكريم وتهتم بتعداد صفاته الخُلُقية والخَلقية وإظهار الشوق لرؤيته وزيارته. ولعل أشهر قصائد المدائح النبوية قصيدة “البردة” للإمام البوصيري.

تقع "البردة" في حوالي 162 بيتًا، وقد شُرحت وفُسرت أكثر من تسعين مرة في العربية والفارسية والتركية والأمازيغية، وخُمست وثُلثت وشُطرت مرات كثيرة، وقد تُرجمت إلى عدة لغات منها اللاتينية والألمانية والفارسية. تنقسم قصيدة "البردة" إلى عشرة فصول؛ الفصل الأول: في ذكر عشق رسول الله، إذ يبدأ البوصيري قصيدته بمقدمة غزلية على عكس باقي الشعراء. كذلك نراه يردد أسماء مواضع حجازية ونجدية، مثل ذي سلم وكاظمة وإضم، وكل ذلك دليل على أن هذه المقدمة الغزلية إنما هي تعبير رمزي لحبه للرسول وشوقه لزيارته.
أمِن تذكر جيران بذي سلم * مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة * وأومض البرق في الظلماء من إضم
فما لعينيك إن قلت اكففا همتا * وما لقلبك إن قلت استفق يهم
إني اتهمت نصيح الشيب في عذلي * والشيب أبعد في نصح عن التهم
يتحدث البوصيري في الفصل الثاني عن النفس الأمارة بالسوء والتحذير من الانقياد لهواها وشهواتها، فهي كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم. وترددت خلالها عبارات أصبحت من الحكم الجارية على الألسنة، مثل قوله:
– إن الطعام يقوي شهوة النهم.
– إن الهوى ما تولى يُصم أو يصم.
– فرُبَّ مخمصة شر من التخم.
خصص الشاعر الفصل الثالث في مدح رسول الله، حيث تحدث عن زهده مع ما عرض عليه من كنوز الأرض، وعن كمال شمائله واصطفاء الله تعالى له. ثم يذكر أنه سيد الكونين (السماء والأرض)، والثقلين (الإنس والجن)، والجنسين (العرب والعجم)، وهو حبيب الله وصاحب الشفاعة يوم الحساب، ورقي مرتبته بين سائر الأنبياء.
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى * أن اشتكت قدماه الضر من ورم
وراودته الجبال الشم من ذهب * عن نفسه فأراها أيما شمم
وأكدت زهده فيها ضرورته * إن الضرورة لا تعدو على العصم
محمد سيد الكونين والثقلين * والفريقين من عرب ومن عجم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته * لكل هول من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به * مستمسكون بحبل غير منفصم
فاق النبيين في خَلق وفي خُلُق * ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمس * غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم
في الفصل الرابع يتحدث عن مولد الرسول وما صاحبه من بشائر، حتى بدا وكأن الكون كله يحتفل بهذا المولد في نشوة وطرب، ومن هذه البشائر تصدع إيوان كسرى، وخمود نار المجوس، وجفاف بحيرة ساوة، وتعم الفرحة أرجاء الكون والسماء.
أبان مولده عن طيب عنصره * يا طيب مبتدأ منه ومختتم
يوم تفرس فيه الفرس أنهم * قد أنذروا بحلول البؤس والنقم
وبات إيوان كسرى وهو منصدع * كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم
والنار خامدة الأنفاس من أسف * عليه والنهر ساهي العين من سدم
وساء ساوة أن غاضت بحيرتها * ورد واردها بالغيظ حين ظمي
كأن بالنار ما بالماء من بلل * حزنًا وبالماء ما بالنار من ضرم
والجن تهتف والأنوار ساطعة * والحق يظهر من معنى ومن كلم
يستعرض الشاعر في الفصل الخامس معجزات الرسول، فذكر سجود الأشجار له، ومشيها إليه، وتظليل الغمامة إياه، وانشقاق القمر، وما صنع الحمام والعنكبوت بالغار، وكيف كان لمس راحة يده يبرئ المريض، وكيف كانت دعوته ترسل الأمطار في سنة الجفاف.
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة * تمشي إليه على ساق بلا قدم
مثل الغمامة أنى سار سائرة * تقيه حر وطيس للهجير حم
أقسمت بالقمر المنشق إن له * من قلبه نسبة مبرورة القسم
وما حوى الغار من خير ومن كرم * وكل طرف من الكفار عنه عم
فالصدق في الغار والصديق لم يريا * وهم يقولون ما بالغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على * خير البرية لم تنسج ولم تحم
كم أبرأت وصبًا باللمس راحته * وأطلقت أربًا من ربقة اللمم
وأحيت السنة الشهباء دعوته * حتى حكت غرة في الأعصر الدهم
ويتناول الفصل السادس معجزة القرآن الكريم، حيث يصف عجز العرب عن معارضة بلاغته، وأن عجائبه لا تحصى ومعانيه لا تنفد، فكأنه البحر في تتابع أمواجه، وكأن ألفاظه لآلئ البحر في الحسن والقيمة.
دعني ووصفي آيات له ظهرت * ظهور نار القرى ليلًا على علم
فالدر يزداد حسنًا وهو منتظم * وليس ينقص قدرًا غير منتظم
دامت لدينا ففاقت كل معجزة * من النبيين إذ جاءت ولم تدم
ما حوربت قط إلا عاد من حرب * أعدى الأعادي إليها ملقي السلم
ردت بلاغتها دعوى معارضها * رد الغيور يد الجاني عن الحرم
لها معان كموج البحر في مدد * وفوق جوهره في الحسن والقيم
يتحدث الشاعر في الفصل السابع عن معجزة الإسراء والمعراج، وكيف مضى الرسول ليلًا من الحرم المكي إلى حرم بيت المقدس، ثم عن معراجه في السموات السبع، وأمَّ الأنبياء في الصلاة.
يا خير من يمم العافون ساحته * سعيًا وفوق متون الأينق الرسم
ومن هو الآية الكبرى لمعتبر * ومن هو النعمة العظمى لمغتنم
سريت من حرم ليلًا إلى حرم * كما سرى البدر في داج من الظلم
وبت ترقى إلى أن نلت منزلة * من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم
وقدمتك جميع الأنبياء بها * والرسل تقديم مخدوم على خدم
وأنت تخترق السبع الطباق بهم * في موكب كنت فيه صاحب العلم
ويتناول في الفصل الثامن جهاد النبي ويشيد بشجاعته وشجاعة صحابته، ويرد انتصاراتهم إلى ما بثه فيهم الرسول من روح التضحية والفداء.
راعت قلوب العدا أنباء بعثته * كنبأة أجفلت غفلا من الغنم
ما زال يلقاهم في كل معترك * حتى حكوا بالقنا لحمًا على وضم
ودوا الفرار فكادوا يغبطون به * أشلاء شالت مع العقبان والرخم
حتى غدت ملة الإسلام وهي بهم * من بعد غربتها موصولة الرحم
مكفولة أبدًا منهم بخير أب * وخير بعل فلم تيتم ولم تئم
هم الجبال فسل عنهم مصادمهم * ماذا رأى منهم في كل مصطدم
وسل حنينًا وسل بدرًا وسل أحدًا * فصول حتف لهم أدهى من الوخم
طارت قلوب العدا من بأسهم * فرقًا فما تفرق بين البهم والبهم
ومن تكن برسول الله نصرته * إن تلقه الأسد في آجامها تجم
يختتم البوصيري قصيدته بمجموعة من الابتهالات والتوسل برسول الله، ويعترف بتواضع ومذلة أنه قضى شطرًا كبيرًا من حياته يمدح بشعره ذوي الجاه والسلطان فلم يجنِ من ذلك سوى الندم والخسران، ولكنه في النهاية وجد خلاصه في تخصيص مديحه ونفسه لرسول الله ويطمع في شفاعته.
خدمته بمديح أستقيل به * ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم
إذ قلداني ما تخشى عواقبه * كأنني بهما هدي من النعم
أطعت غي الصبا في الحالتين وما * حصلت إلا على الآثام والندم
فيا خسارة نفس في تجارتها * لم تشتر الدين بالدنيا ولم تسم
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به * سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي * إذا الكريم تجلى باسم منتقم
يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا * واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
شوقي ونهج البردة
ويرى البعض أن قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي في مدح الرسول هي أعظم ما قاله الشعراء فيه. وفي نهج البردة عارض شوقي الإمام البوصيري، وقد كتبها وكان يعاني الشلل، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام، فألقى عليه بردته الشريفة، وأفاق الإمام البوصيري ليجد نفسه وقد بَرِئ من المرض. وقد عارض البردة نحو مئتي شاعر، وكانت نهج البردة لشوقي أشهر المعارضات للبوصيري.
كانت قصائد شوقي وبردته الشهيرة أجمل ما غنَّت كوكب الشرق أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي. ومن بين ما تم تلحينه من القصيدة:
أبا الزهراءِ قد جاوزتُ قدري * بمدحكَ بَيْدَ أنّ ليَ انتسابا
وما عَرِفَ البلاغة ذو بيانٍ * إذا لـم يتخــــذكَ لــــه كتـــــــابا
مدحتُ المالكِينَ فزدتُ قدرًا * وحين مدحتُكَ اقتَدتُ السحابا
وما للمسلمين سواكَ حصنٌ * إذا ما الضّرُ مسَّهُمُ ونابا
شعراء مدحوا الرسول
كثيرٌ من الشعراء مدحوا رسول الإسلام: كعب بن زهير، وحسان بن ثابت، والإمام الشافعي. فقد قال الصحابي حسان بن ثابت:
أطالت وقـوفًا تـذرف العـين جهدًا * على طللِ القبر الذي فـيه أحـمـدُ
فبوركت يا قـبر الرسول وبـوركت * بلادٌ ثـوى فـيها الـرشـيدُ المُـسـددُ
وبورك لـحـدٌ مـنك ضمـن طيـبًا * عليه بناءٌ مـن صفـيحٍ مُـنضدُ
وقال حسان أيضًا:
أغـرَّ عـليه للـنبـوةِ خـاتـمٌ * من الله مشهـودٌ يـلـوحُ ويُـشهــدُ
وضمَ الإله اسم النبي إلى اسمهِ * إذا قال في الخمسِ المـؤذنِ: أشهـدُ
وشـق له مـن اسـمه لـيـجُـلـه * فـذو العـرشِ محمودٌ، وهـذا محمدُ
نـبيٌ أتانـا بـعـد يـأسٍ وفـتـرةٍ * من الرسـل والأوثان في الأرض تُـعبدُ
فأمسى سراجًا مستنيرًا وهاديًا * يلوحُ كما لاح الصقيلُ المُـهندُ
ولا أحد ينسى قصيدة البردة لكعب بن زهير، التي يقول فيها:
بانَتْ سُــعادُ فقَلْبِي اليــومَ مَتْبُولُ * مُتَيَّـمٌ إثْرَهــا لَم يُفْـدَ مَكْبـولُ
وما سعادُ غَــدَاةَ البَيْنِ إذ رَحَلُــوا * إلا أَغَنُّ غَضِيـضُ الطَّرْفِ مَكْحـولُ
هيفــاءُ مُقْبِلَـــةً عَجْزَاءُ مُـدْبِرَةً * لا يُشْـتَكَى قِصَرٌ مِنهـا ولا طـولُ
تَجْلو عَوَارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتَسَـمَتْ * كأنَّـهُ مُنْهَــلٌ بالرَّاحِ مَعلُــولُ
شُجَّتْ بِــذِي شَبمٍ مِن مــاءِ مَعْنِيَةٍ * صافٍ بـأَبْطَحَ أَضْحى وَهْوَ مَشمُولُ
تَنْفِي الرِّيَــاحُ القَــذَى عَنهُ وأَفْرَطُهُ * مِن صَوْبِ سـارِيَةٍ بِيضٌ يَعَـاليـلُ
أَكْــرِمْ بها خُلَّةً لـو أَنَّهَــا صَدَقَتْ * مَوعودَهـا أَو لَو أنَّ النُّصْحَ مَقبولُ
لكنَّهَـــا خُلَّةٌ قَد سِيطَ مِن دَمِهَــا * فَجْـعٌ وَوَلْـعٌ وإخلافٌ وتَبديـلُ
فما تدومُ على حـالٍ تكونُ بِهـــا * كَمـا تَلَوَّنُ في أثـوابِهـا الغـولُ
مدائح الشعراء المسيحيين
اللافت للانتباه أن التراث الإنساني يزخر بروائع تجسِّد مشاعر وجدانية صادقة وحقيقية لدى عدد كبير من الأدباء والشعراء المسيحيين في الشرق، عبَّروا عنها في مدائح فريدة للرسول الكريم، تفيض بالمودة والحب والتقدير.
من بين المعارضات الشعرية لقصيدة شوقي نهج البردة تلك التي جادت بها قريحة الشاعر السوري ميخائيل خير الله ويردي بعنوان أنوار هادي الورى، وعدد أبياتها 124 بيتًا من البحر البسيط. فهو أول شاعر مسيحي ينظم قصيدة في نهج البردة على الإطلاق، وفتح الباب على مصراعيه أمام شعراء مسيحيين آخرين ليحذوا حذوه، ويسلكوا مسلكه، ويسيروا على دربه وخطاه. قال في مطلعها:
أنوار هادي الورى في كعبة الحرم * فاضت على ذكر جيران بذي سلم
وأرسلت نغم التوحيد عن ملكٍ * كالروح منطلقٍ كالزهر مبتسم
إلى أن قال:
واجعل هواك رسول الله تلقَ به * يوم الحساب شفيعًا فائق الكرم
هذا رسول الهدى فارشف على ظمأٍ * من ورده العذب عطفًا شاق كل ظمي
كأنما قلبه ينبوع مرحمةٍ * مستبشر جذلان بالنسم
يا أيها المصطفى الميمون طالعه * قد أطلع الله منك النور للظلم
وحفل العصر الحديث بعدد وافر من الأدباء والشعراء المسيحيين العرب، ومن بينهم الشاعر اللبناني حليم دموس، الذي يتوجه بالشعر للرسول قائلًا:
أمحمدٌ والمجد بعض صفاته * مجدتَ في تعليمك الأديانا
بعثتَ الجهاد لدن بعثتَ وجردتْ * أسيافُ صحبك تفتحُ البلدانا
أما شبلي شميل، الباحث والطبيب، فقد أبدع قصيدة رائعة أعرب فيها عن عظمة النبي الأمي وما حباه الله به من نعمة الفصاحة والبيان التي تمثلت في القرآن الكريم، من روائع وعظات وأحكام، فيقول:
دعْ من محمد في سُدى قرآنه * ما قد نحاهُ لِلحِمَةِ الغايات
ويقول:
نِعْمَ المديرُ والحكيمُ وإنهُ * ربُّ الفصاحةِ مصطفى الكلمات
رجلُ الحِجى، رجلُ السياسةِ والدها * بطلٌ حليفُ النصر في الغارات
ومن اللافت للانتباه أننا نجد دُررًا لشعراء مسيحيين في مدح النبي الكريم، مثل القصيدة المتماسكة لشاعر من عائلة أرمينية مسيحية كاثوليكية، يهجم فيها على موضوعه بشكل مباشر، قائلًا:
أَنوارُ هادِي الورَى في دارةِ العِلمِ * رَفَّت على ذِكرِ جيرانٍ بذِي سَلمِ
والقصيدة منشورة في مجلة الرسالة، في 6/10/1952م.
وفيها يزاوج الشاعر بين النصح والتشوق للنبي – عليه الصلاة والسلام –:
أقول للمصطفى: أعظمْ بما ابتدعتْ * آياتُ ربِّك من خيرٍ ومِن نِعمِ
لو يَتبعُ الخَلقُ ما خلَّدتَ مِن سُننٍ * لم يَفْتِكِ الجهلُ والإعوازُ بالأُممِ
ومن شعراء المديح النبوي المسيحيين الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وقد صاغ قصيدةً بعنوان عيد البرية يستحث فيها المسلمين لاستعادةِ مجدهم القديم، ويُقرئ رسولَ الله سلاماته وحبَّه، داعيًا إلى التحابِّ والتآخي بين المسلمين والمسيحيين؛ خِدمة لأوطانهم والشرق كله، فيهتف:
يا فاتحَ الأرضِ ميدانًا لدولتِه * صارتْ بلادُك ميدانًا لكلِّ قوي
يا قومُ هذا مسيحيٌّ يُذكِّركم * لا يُنهض الشَّرقَ إلاَّ حبُّنا الأُخوي
فإنْ ذكرتم رسولَ الله تكرمةً * فبلِّغوه سلامَ الشاعِر القروي

أخبار الساعة

الاكثر قراءة