من المعروف عن أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 – 1932) أنه لم يحج إلى بيت الله الحرام، ولم يقم بأداء العمرة، ولم يزر مكة المكرمة في يوم من الأيام (مثله في ذلك مثل نجيب محفوظ)، ومع ذلك فقد أبدع شوقي في قصائد المديح النبوي أيما إبداع، فكتب “نهج البردة”، و”إلى عرفات الله”، و”الهمزية النبوية” المعروفة باسم “وُلِد الهدى”، و”سلوا قلبي”، وغيرها من القصائد، فضلًا عن أن قصائد كثيرة تضمنت بعض أبياتها إشارات صريحة وضمنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كتب عن الهجرة، وذكرى موقعة بدر، وليلة الإسراء والمعراج، وشهر رمضان، ومعظم المناسبات الدينية.
وعند لحظة احتضاره (فجر الجمعة 14 أكتوبر 1932) طلب شوقي من القريبين منه أن يُكتب على قبره بيتان من "نهج البردة" هما:
يا أحمد الخير لي جاهٌ بتسميتي ** وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
إن جَلَّ ذنبي عن الغفران لي أملٌ ** في الله يجعلني في خير معتصمِ
ويرى أحمد زكي باشا، الملقب بشيخ العروبة (1867 – 1934)، أن شوقي تقرَّب إلى الله وإلى رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام، بنظم "نهج البردة" ونزَّهها عن خرافات القصَّاص وأكاذيب المدَّاح.
أما أم كلثوم (1898 – 1975) فقد انحازت لـ "نهج البردة" أكثر من "بردة" البوصيري، رغم أن الأخيرة هي ذائعة الصيت أكثر من قصيدة شوقي، وهي الأصل الذي عارضه شوقي. واختارت 30 بيتًا من 190 بيتًا هي مجمل أبيات القصيدة الشوقية، ومنها:
صلاحُ أمرك للأخلاق مرجعه ** فقوِّم النفسَ بالأخلاق تستقمِ
والنفسُ من خيرها في خير عافيةٍ ** والنفسُ من شرِّها في مرتعٍ وَخِمِ
إن جَلَّ ذنبي عن الغفران لي أملٌ ** في الله يجعلني في خير معتصمِ
وتصرح كوكب الشرق أن قصيدة "سلوا قلبي" كانت لقاءها الحقيقي مع شوقي، وترى أن "نهج البردة" و"الهمزية" كانتا مدحًا خالصًا يستلهم الذائع والمشهود به من سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام عبر التاريخ والمستقر في وجدان المسلمين وغير المسلمين، كما ورد في كتاب أم كلثوم.. الشعر والغناء (2023) للناقد د. أحمد يوسف علي. وتكتمل دائرة المدح المحمدي عند شوقي بقصيدة "إلى عرفات الله" وغنَّتها أم كلثوم عام 1965:
إلى عرفاتِ اللهِ يا خيرَ زائرٍ ** عليك سلامُ اللهِ في عرفاتِ
ويومَ تولي وجهةَ البيتِ ناظرًا ** وسيمَ مجالي البشرِ والقسماتِ
على كلِّ أفقٍ بالحجازِ ملائِكٌ ** تزفُّ تحايا اللهِ والبركاتِ
ويستغرب الشاعر أحمد محفوظ فهمي (1908 – 1979) في كتابه حياة شوقي من أن أمير الشعراء نظم كل قصائده الدينية، ومن بينها "نهج البردة"، وهو في ظل شبابه، وفي إبان عبثه ولهوه، ويقول فيها:
لزِمتُ بابَ أميرِ الأنبياءِ ومن ** يُمسك بمفتاحِ بابِ اللهِ يغتنمِ
فكلُّ فضلٍ وإحسانٍ وعارفةٍ ** ما بين مستلمٍ منه وملتزمِ
علَّقتُ من مدحهِ حبلًا أُعزُّ به ** في يومِ لا عزَّ بالأنسابِ واللُّحَمِ
ويرى الناقد د. صلاح فضل (1938 – 2022) أن "نهج البردة" يمكن أن تُعد من أقوى معارضات شوقي وأشدها رصانة، والتي بدأها بقوله:
ريمٌ على القاع بين البانِ والعَلَمِ ** أَحلَّ سَفكَ دَمي في الأشهر الحُرُمِ
رمى القضاء بعيني جؤذرٍ أسدًا ** يا ساكنَ القاعِ أدرِك ساكنَ الأجَمِ
لمَّا رنا حدَّثتني النفسُ قائلةً ** يا ويح جنبِكَ بالسهم المصيب رُمي
أما عزت فارس فيؤكد في كتابه النزعة الإسلامية في شعر شوقي (2010) أن "نهج البردة" تناقلتها الألسنة، وحفظتها الأفئدة، وأنها نغمة شوقي العذبة في فم الزمان، التي حفظها الملايين في معظم الأقطار الإسلامية، واهتم بها شداة الأدب ورواد الثقافة، فنهلوا من معينها، وارتووا من غديرها، وقالوا على شطآنها. وهي أثر جليل من آثار شوقي، حُق له أن يفخر بها وأن يتسامى.
ويذهب شاعر الجندول علي محمود طه (1901 – 1949) إلى أن لشوقي نفحات طيبات وآيات رائعات في الشعر الديني، ويرى أنه بزَّ البوصيري في قصيدته "نهج البردة"، وله في ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدة رائعة المعاني، تفيض بموسيقيتها ومعانيها جلالًا وجمالًا وزهادةً وتصوفًا، ولعله يقصد قصيدة "سلوا قلبي" التي يقول في مطلعها:
سَلوا قلبي غداة سلا وثابا ** لعلَّ على الجمالِ له عتابا
ويُسأل في الحوادث ذو صوابٍ ** فهل ترك الجمالُ له صوابا
وكنتُ إذا سألتُ القلبَ يومًا ** تولَّى الدمعُ عن قلبي الجوابا
ولي بين الضلوع دمٌ ولحمٌ ** هما الواهي الذي ثَكِلَ الشبابا
وهي القصيدة التي قال فيها شوقي:
أبا الزهراءِ قد جاوَزتُ قدري ** بمدحِكَ بيدَ أنَّ لي انتسابا
فما عرف البلاغةَ ذو بيانٍ ** إذا لم يتخذك له كتابا
مدحتُ المالِكينَ فزِدتُ قدرًا ** فحين مدحتُكَ اقتدتُ السحابا
ويؤكد علي محمود طه أنه "ليس من شوقي كثيرٌ لدينا".
ويلفتنا الناقد د. منير سلطان – أستاذ البلاغة والنقد الأدبي بكلية البنات جامعة عين شمس، والذي رحل في أكتوبر 2016 – من خلال كتابه البديع في شعر شوقي (1992) إلى أننا نستطيع أن نطبق كل أنواع الجناس على قصيدة شوقي "نهج البردة" (190 بيتًا) – وإن كان من العسير أن نجد الجناس، أو أي فن بلاغي، بدرجة مكثفة، في عمل فني واحد – وفيها ندرس: جناس المقدمة الغزلية، وجناس مقطع الحديث إلى النفس، والجناس في مقطع المدحة النبوية ونوعه من حيث التمام والنقصان، والجناس في مقطع الرجاء أن يعين الله سبحانه وتعالى شعوب الإسلام.
بينما يرى الشيخ محمد الغنيمي التفتازاني (1893 – 1936) أن شوقي كان حسيبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعترته الطيبة الطاهرة، إذ لا يخلو شعره الخالد من نفحة من نفحات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الإشادة بذكرى آله وعترته، فقد شاطرهم في "نهج البردة" مصابهم الخالد، وصوَّرهم في مجمل شعره بالصورة الطبيعية لهم، مباهيًا بهم، مفاخرًا بأرومتهم، مصورًا مبلغ تضحياتهم في سبيل الإسلام والمسلمين. ومن هذه الناحية يعتبر أهل البيت في أنحاء الدنيا أنهم أصيبوا في الصميم بفقدان شوقي، فقد كان الفرد الجامع المكافح عنهم المتمسك بالعروة الوثقى في محبتهم.
أما المسلمون فقد وجدوا في شعر شوقي سورًا منيعًا وقاهم في ظروف كثيرة عبث الهدامين.
ويشير د.زكي مبارك (1892 – 1952) – من خلال الكتاب الذي أعدته ابنته كريمة زكي مبارك (1988) – إلى معارضة شوقي لبردة الإمام البوصيري بقصيدة سماها "نهج البردة"، ويرى أن البوصيري هو صاحب الفكرة، وقد تبعه البارودي (بقصيدته كشف الغمة في مدح سيد الأمة التي وقعت في أكثر من 400 بيت)، ولحقهما شوقي. ويمكن أن نحكم بأن شعر البوصيري أروع من شعر شوقي في وصف الخوارق والمعجزات، وأن شوقي أبعد نظرًا من البوصيري في نقد الأخبار والآثار.
أما قصيدة "إلى عرفات الله"، فقد كتبها شوقي في ظروف غريبة، يحكي عنها حسين شوقي (ابن الشاعر) في كتابه أبي شوقي (1947) قائلًا: كان أبي كلما روى هذا الحادث فيما بعد يضحك ملء شدقيه، فقد عرض عليه الخديوي عباس حلمي الثاني أن يحج معه، ووافق أبي على الذهاب مع الخديوي، ولكن ما أن بلغ ركب الخديوي بنها حتى اختفى أبي، فجعل سموه يبحث عنه ولكن دون جدوى.
ويقول أبي إنه اختبأ إذ ذاك في منزل أحد أصدقائه.
ولما عاد سموه من الحجاز وأخذ يلوم أبي على فعلته، اعتذر قائلًا: كل شيء إلا ركوب ظهر الجمال يا أفندينا! ولكي يعوِّض سموه عن هذا التقصير، نظم له قصيدة ترحيب وتهنئة بالحج طويلة عامرة الأبيات (أكثر من ستين بيتًا)، وهي التي يقول في مطلعها:
إلى عرفاتِ الله يا ابنَ محمدٍ ** عليك سلامُ الله في عرفاتِ
لدى البابِ جبريلُ الأمينُ براحِهِ ** رسائلُ رحمانيةُ النفحاتِ
وفي الكعبةِ الغرَّاءِ ركنٌ مرحِّبٌ ** بكعبةِ قصَّادٍ وركنِ عُفاةِ
وعندما قامت أم كلثوم بغنائها تم تغيير البيت الأول ليصبح:
إلى عرفاتِ الله يا خيرَ زائرٍ ** عليك سلامُ الله في عرفاتِ
ويتقدم شوقي في هذه القصيدة إلى الخالق سبحانه وتعالى، يلتمس صفحه وغفرانه لعدم تأديته هذا الواجب الديني.
أما "ابن محمد" في القصيدة فيقصد به شوقي الخديوي عباس حلمي الثاني بن محمد توفيق بن إسماعيل (1874 – 1944)، خديوي مصر من 8 يناير 1892 إلى يوم عزله في 19 ديسمبر 1914، وتم بعدها نفي أمير الشعراء إلى إسبانيا عام 1915.
وترى الباحثة الكويتية د.سعاد عبدالوهاب في كتابها إسلاميات أحمد شوقي أن "شوقي وجد رهن تصرفه تراثًا شديد الغنى، متنوع المصادر، فأقبل على هذا التراث يستمد منه ومن ينابيعه السخية أدوات يُثري بها تجربته الشعرية ويمنحها شمولًا أكثر وأصالة أعظم، وفي الوقت نفسه يوفر لها أغنى الوسائل الفنية بالطاقات الإيحائية وأكثرها قدرة على تجسيد هذه التجربة وترجمتها ونقلها إلى المتلقي".
ويقول الباحث الفرنسي أنطوان بودولاموت في كتابه الإلهام وفن الشعر عند أمير الشعراء أحمد شوقي، وجهة نظر فرنسية، ترجمة محمود المقداد، والصادر عن مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، الكويت 2006: "إن هناك قصيدة طويلة رائعة، بارزة بوضوح بين القصائد المختلفة التي مدح بها الشاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأمجاد الإسلام، وتُعرف عمومًا نسبةً لقافيتها باسم "الهمزية النبوية". وقد بذل فيها الشاعر كل طاقاته اللغوية والشعرية الواسعة بفضل قافيتها، وأسهم صوت أم كلثوم الدافئ في تعريف الجماهير بها على نطاق واسع".
ويقصد بودولاموت قصيدة ولد الهدى التي يقول شوقي في مطلعها:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ** وَفَمُ الـزَمانِ تَـبَـسُّمٌ وَثَناءُ
الـروحُ وَالـمَلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ ** لِـلـدينِ وَالـدُنـيا بِهِ بُشَراءُ
وَالـعَـرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي ** وَالـمُـنتَـهى وَالسِّدرَةُ العَصماءُ
وَالـوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ ** وَالـلَّـوحُ وَالـقَـلَـمُ البَديعُ رُواءُ
ويتحدث بودولاموت عن قصيدة سلوا قلبي فيقول: أوحى إلينا شوقي في قصيدته التي تحمل عنوان ذكرى المولد بأن ليس هناك بلاغة حقيقية للشاعر الموهوب سوى تلك البلاغة التي تقوم على مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
فَما عَرَفَ البَلاغَةَ ذو بَيانٍ ** إِذا لَم يَتَّخِذكَ لَهُ كِتابا
مَدَحتُ المالِكينَ فَزِدتُ قَدرًا ** فَحينَ مَدَحتُكَ اقتَدتُ السَّحابا
ويروي لنا الشيخ التفتازاني حديثًا قصيرًا له مع أمير الشعراء، وكان ذلك قبيل وفاته بثلاثة أيام، حين وفد شوقي على نُزل (فندق) الكونتننتال لزيارة صديقه السيد إبراهيم بن عمر السقاف. يقول التفتازاني:
"لقد بشرتُ شوقي يومها بغفران الله، وأنه من المقبولين، وذلك تفسيرًا لرؤيا رآها رجل من الصالحين، مؤداها أنه رأى الحسنين – رضي الله عنهما – يستقبلان شوقي، ثم يهمّان به إلى جدهما عليه الصلاة والسلام، فيستدعي المصطفى حسَّان بن ثابت رضي الله عنه، ويقول له: إن أحمد نافح كما نافحت، ووفَّى كما وفيت، فخذْه إلى جوارك في الجنة".
ويقول التفتازاني: "قصصتُ هذه الرؤيا كما أبلغنيها مَن رآها، وهو رجل معروف بيننا بالصلاح والصدق، فماذا رأينا حينذاك؟ رأينا الدمعة على محاجر شوقي، وهو يهمهم: (عليه الصلاة والسلام... عليه الصلاة والسلام)، فلم يستطع أحدنا حبس دمعه، وانصرف وانصرفنا، ثم كان أن لقي ربَّه في ثالث يوم بعد هذه البُشرى".
هل معنى ذلك أن شوقي كان شاعرًا متصوفًا، أم شاعرًا روحانيًّا؟
في حقيقة الأمر، لم يكن شوقي متصوفًا، بل أنكر مذهب المتطرفين من المتصوفة الذين قالوا بمذهب الحلول، وهو ليس ببعيد عن الموقف الرومانسي الأوروبي المتطرف من الطبيعة. وعلى الرغم من ذلك كان شوقي واسع الاطلاع في التصوف وأدبه، ولا شك أنه وعى نقد السُّنة للحلول عند المتصوفة كعمر بن الفارض (1181–1235)، وإنكاره ذلك وتبرؤه منه في بيتيه بالتائية الكبرى:
ولي مِن أتَم الرّؤيَتينِ إشارةٌ ** تُنَزِّهُ عن رأيِ الحُلولِ عقيدتي
وفي الذكرِ ذكرُ اللَّبْس ليسَ بمُنكرٍ ** ولم أعْدُ عن حُكمَيْ كتابٍ وسُنَّةِ
ويرى البعض أن الروحانية هي حقيقة الشعر ورجاحة الموزون والمراد من المنظوم، والروحانية لا تقوم على مثل هذه الجفوة والقسوة والغلظة، بل تكون بمثل ما قال المتنبي (915–965) في مثل هذا المقام:
ترفقْ أيُّها المولى عليهم ** فإن الرفقَ بالجاني عتابُ
وأثناء عبوره قناة السويس (1915) في طريقه إلى المنفى بإسبانيا، قال شوقي للسفينة المتهالكة التي تقله هو وأسرته: طيري، عوذتكِ بوديعة التابوت (موسى)، وبصاحب الحوت (يونس)، وبالحي الذي لا يموت؛ وأَسري يا ابنةَ اليم، زمامك الرُّوح، وربَّانك نوح، فكم عليك من منكوبٍ ومجروح.
إنه دعاء مكروب في لحظة ضيق وهمٍّ وغربة.
ويوضح الشيخ محمد الغنيمي التفتازاني – وهو من مشايخ الطرق الصوفية – أنه شاهد شوقي (باشا) شاعر الأمير، والروح الملهم، يطوف بضريح السلطان الحنفي، يسأل الله المغفرة والستر في الدنيا والآخرة، ويدعو لأهله وولده، ثم يوزع الصدقة في غير مَنٍّ ولا أذى على اللاجئين إلى ساحة السلطان من الفقراء والمعوزين.
ويقول التفتازاني: كم هو حريصٌ أمير الشعراء على هذا النوع من الصدقة وهذا الأسلوب من النسك، رغم انتزاع كَرمة ابن هانئ لهذا الكنز النفيس من قلب القاهرة، حيث تقع دارهم الأولى، إلى ضاحية المطرية، ثم إلى ضاحية الجيزة.
ويحكي الشيخ التفتازاني أنه عندما كان يمرض شوقي ويلزم سريره، كانت رسله تفد إلى دار صهره أمير الإحسان المرحوم حسين باشا شاهين، ليكلف المرحومَ سيدَنا الشيخ حسن سرحان، كبير فقهاء الدائرة وأحد مؤذني مسجد السلطان الحنفي، بقراءة الفاتحة وسورة يس لله تعالى بمقام السلطان، توسلا بالعزيز الرحيم أن يعفو عن "شوقي".
وفي مرضه الأخير، يُستدعى الشيخ التفتازاني إلى قصر شوقي بالجيزة (هاتفيا)، فإذا بشوقي يستقبله في غرفة نومه وهو على سرير مرضه، ويطلب إليه – في وداعة المؤمن الموقن – أن يقرأ له يس، وأن يطلب له الفاتحة في مقام السلطان الحنفي.
وظل هذا أسلوبه مع الشيخ، يمرض فيطلبه كما يطلب الطبيب، ويكلف أحد أتقياء الفقهاء أن يقرأ يس لله تعالى كما أراد، ثم يطلب له الفاتحة في مجلس الذكر، ويشفى فتنطوي الصفحة مؤقتًا، وهكذا دواليك، حتى لقي ربَّه مغفورًا له.
وفي مقال له، يقول الباحث عبد العزيز الإسلامبولي، صاحب مجلة المعرفة: "إنما شوقي إلا الدماغ الذي وعى كل ما في الحياة من فنون. وقد أدهشني قوله: درستُ التصوف دراسة مستفيضة، وعرفتُ كل ما يتخذه المتصوفون لوصفهم حالاتهم من مصطلحات، وزدتُ على ذلك أن عارضتُ القصيدة التائية لابن الفارض، وعارضتُ القصيدة الخمرية له أيضًا. ولم أنشرهما بعد".
أما الباحث الفلسطيني عرفان شهيد (1926–2016) فيرى أن شوقي تأثر بعالم التصوف، فقد عاش في بلد كانت – وما زالت – الطرق الصوفية فيه قوية، ترى مراكزها قريبة من مسجد سيدنا الحسين، ولا شك أن شوقي وسَّع فهمه ومعرفته بالتصوف بعد دراسته لـ الكشكول (للمرصفي). وأهم مصادر هذه المعرفة كانت ثلاثة: الغزالي، وابن الفارض، والإمام البوصيري. ومع هذا، لم يكن شوقي متصوفًا، وإنما كان شاعرًا لم يستطع أن يهمل الشعر الصوفي الذي جمَّل ديوان الشعر العربي بنفحاته وومضاته.
ويرى محمد لطفي جمعة (1886–1953) أن شوقي – بعد عودته من أوروبا – تحلَّل من العاطفة الدينية بالتدريج، وصار على مذهب سيدنا محيي الدين بن عربي: أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجهتْ ** ركائبُهُ فالحبُّ ديني وإيماني. وإن الناظر في دواوين شوقي الثلاثة، التي نُشرت في مدى ثلاثين عامًا، ليعثر بأسماء الأنبياء والرسل والآلهة القديمة في مصر وغيرها، كأن شوقي يعبدها جميعًا، ويقول:
كنيسةٌ صارت مسجدًا ** هديةُ السيدِ للسيدِ
كانتْ لعيسى حرمًا فانتهتْ ** بنصرةِ الروحِ إلى أحمدِ