يُعَدُّ الشعر الصوفي من الروافد الرئيسة لشعر الزهد الذي ظهر بشكل جلي في العصر الأموي. ومن شعر الزهد بزغ المديح النبوي، والتقرب إلى الله تعالى، والتوسل، والمناجاة، والرجاء... ومن الشعر الصوفي تجلى الشوق والحب الإلهي، فهو مورد عذب للتجليات والمكاشفات القلبية والفيوضات الربانية.
واحتوى الشعر الصوفي على تجربة الحب الإلهي، فهي تجربة شعرية مائزة انمازت بها دواوينهم، حيث إنها تدل على التعلق الوثيق بالله تعالى/ المحبوب، إذ يمتلك كل صفات الجمال والجلال، في مقابل المحب/ الصوفي العارف الذي يستشعر دائمًا النقص، لذا يتطلع صوب الحق والخير والجمال. وعندما يتدرج في مراقي الحب لله تعالى، وتصفو نفسه، ويبتعد عن أدران المادة، ويعرج بروحه نحو الشهود والاحتراق والفناء؛ فإنه حينئذ يحظى بمعرفة الله في أبهى وأجل صورها، فيستشعر العشق ويتذوقه، فيفنى فيه ويتفاعل معه، ويفصح عن قليله، ويسكت عن كثيره ـ فالصمت في حرم الجمال جمال ـ ليظل في معية الله ـ وإن كانت أقرب إلى الخيال، ونوعًا من التماهي الذي لا يتحقق إلا بالعشق ـ فهو وحده يستحق المحبة.
والحب في الدنيا، على اختلاف درجاته، يعتمد على حقيقة الحب الإلهي، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وورد في رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال في الحديث القدسي الجليل: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه» [صحيح البخاري، 8/105]. وروى أبو أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، فقد استكمل الإيمان» [سنن أبي داود، 4/220].
وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن داود عليه السلام تبتل إلى الله تعالى، وقال: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد» [سنن الترمذي، 2/315].
(1)
شعر الحب الإلهي لا يرتكز على العاطفة الدينية فحسب، بل هو تجربة روحية سامية عبقة متوهجة، تمخضت من مراحل معرفية، ومن تجليات ذوقية مفعمة بوجد إيماني، ومناجاة بصيرية، ومشاعر صادقة، وأحاسيس مرهفة، كلها تتواصل بالله ومع الله وفي الله؛ لتحظى بالإشراقات والتجليات والمكاشفات والمعارف والفتوحات. لذا تتشكل تجربة الحب الإلهي من كلمات شعرية موحية، وصور رمزية تضمر أكثر مما تصرح، حسب التقلبات والأحوال التي عليها الشاعر العارف، والأفق الروحي الذي يحلق فيه، والذي قد يصل ـ أحيانًا ـ إلى الفناء المطلق في الذات الإلهية أو وحدة الشهود؛ بغية نيل مرتبة من مراتب الكمال توصله إلى القرب من ذي الجلال.
وهو ما ذهب إليه الحلاج (ت 309هـ) في قوله:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنـا
فإذا أبصرتني أبصرته * وإذا أبصرته أبصرتنا
ويتماهى الحلاج ـ بمحدوديته الطبيعية ـ مع الذات الإلهية بالعشق، وبأنه عاشق في ملكوت الله بين الذكر والفكر في خلواته:
لي حبيب أزوره في الخلوات * حاضر غائب عن اللحظات
ما تراني أصغي إليه بسمع * كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكل ولا نطق * ولا مثل نغمة الأصوات
وعند مجالسة الحلاج للقوم، فإن حبه لله تعالى لا يفارقه:
والله ما طلعت شمس ولا غربت * إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم * إلا وأنت حديثي بين جلاسي
(2)
منذ عصر رابعة العدوية (ت 180هـ) أصبح الحب الإلهي درجته الأسمى / العشق الإلهي، فهو موضوع رئيس من مقامات السلوك، وصار شاهدًا ذوقيًا من شهود الوحدة في الوجود. وتتغنى رابعة العدوية في حضرتها بعشق الذات الإلهية، وتفتح بابًا واسعًا في هذا المعنى المقدس:
أحبك حبين: حب الهوى * وحبًا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى * فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له * فكشفك الحجب حتى أراكا
(3)
من جماليات شعر الحب الإلهي توظيف الرمز لإشباع ما يمور بداخلهم من أحوال وتقلبات، وإن استغلق على فهم المتلقي في كثير منه.
ومن رموز الصوفية "الخمر"؛ ويقصدون بها أنوار الله، و"السُّكر" ويقصدون به سكر الأرواح. من ذلك قول شهاب الدين عمر السهروردي (ت 563هـ) في إحدى نورانياته بعنوان "وارحمتا للعاشقين":
أهلُ المحبة حين طاب شرابهم باعوا النفوسَ لحبهم وارتاحوا
شربوا كؤوسَ الحب في حان الصفا فتميلت سُكرًا بها الأرواحُ
بالانكسار تحمَّلوا في حبِّه فبدا عليهم من رضاه سماحُ
والشعر الصوفي في باب الحب الإلهي يتقاطع مع تجربة الحب العذري الأموي، كما عند قيس وليلى، وجميل بثينة، وكثير عزة؛ لذلك عبَّر شعر العشق الإلهي تعبيرًا قويًّا عن عاطفتهم الجياشة؛ فقد وظفوا معجم الغزل العذري وصوره الفنية التشويقية ذات النزعة الدرامية التأثرية، لدرجة أن طقس تجاربهم في ظاهره يسوده الغزل العذري، وإذا تعمَّقتَ في ثناياه وجدته آية صادقة من آيات العشق الإلهي، الذي لا تحتويه أبجدية. تقول رابعة العدوية:
يا سروري ومنيتي وعمادي وأنيسي وعُدَّتي ومرادي
أنتَ روحُ الفؤاد أنتَ رجائي أنتَ لي مؤنسٌ وشوقك زادي
حبُّك الآن بغيتي ونعيمي وجلاءٌ لعين قلبي الصادي
وأكَّد عبدالرحمن بدوي في "شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، صـ 27 – بتصرف": إن حب رابعة وعشقها لا يتعلق بجزاء أو تبادل بينهما؛ فهي لا تريد شيئًا سوى النزاهة المطلقة في عشقها الخالص لله.
ولقاء المحبَّين بالروح أعظم من لقاء المادة؛ حيث سَتْر نار الشوق رغم أنها لظى، وهذا ما نلمسه عند أبي بكر الشبلي (ت 334هـ) متحدثًا عن حبه، وأنه يشبه مجنون ليلى في تجربته، لكن الشبلي كتم أسراره مع الله؛ لأنه أخذ الدرس بعدما حدث من مصيبة قتل الحلاج عندما أباح بأسرار عشقه. يقول الشبلي:
باح مجنونُ عامرٍ بهواهُ وكتمتُ الهوى فمتُّ بوجدي
فإذا كان في القيامة نودي مَن قتيل الهوى؟ تقدمتُ وحدي
وعندي دموع لو بكيتُ ببعضها لفاضت بحورٌ بعدهن بحورُ
ويقول ابن الفارض في عشق الله:
وحياةُ أشواقي إليك وتربةُ الصبرِ الجميل
ما استحسنت عيني سواك ولا صبوتُ إلى خليل
إن ما قدمته بمثابة غيض من فيض، وكل جزئية تحتاج إلى مزيد من البحث الجاد، فطوبى للداخلين في رياض الأدب الصوفي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.