الجمعة 19 سبتمبر 2025

مقالات

حكايات مزمنة.. لحن الرعاية

  • 19-9-2025 | 10:18
طباعة

في غرفة الرعاية المركزة تتثاقل اللحظات وتتشابه الأيام، ليطل "عم سمير" كنافذة صغيرة يدخل منها لحن الفرح، رجل ستيني وجهه المشرق يسبق كلماته، يُلوح لكل من يراه من فوق سريره بابتسامة واسعة وكأنه يعرف الجميع منذ سنوات.

لم يكن سلامه مجرد حركة عابرة بل تحية حقيقية تلمس القلب، يتبادلها مع المرضى والممرضات والأطباء على حد سواء، وبين يديه كنز صغير، راديو ترانزستور قديم، يطلق كل صباح أجمل ألحان كوكب الشرق وأصوات عمالقة الطرب.

 صوته يملأ طرقات الرعاية فيكسر صمت الأجهزة ورتابة العلاج، وكأنه يذكر الجميع أن الحياة لا تزال تغني.

ذلك الراديو ليس مجرد جهاز بل قطعة من الذاكرة، موروث عتيق يحتفظ به "عم سمير" بحرص شديد كأنه جزء من روحه وونيس أيامه.

يجلس الممرضون حوله في أوقات الاستراحة، تسبقهم ضحكاتهم قبل أن يصلوا، يستمعون إلى حكاياته الممزوجة بالكوميديا والمواقف الساخرة، حتى المرضى في الأسرة المجاورة يتركون همومهم جانبًا ليشاركوا مجلسه.

على مدار عامين وهي مدة رحلتي في المستشفى، لم أرى مريضًا يواجه أمراضًا مزمنة فتاكة بكل هذه القوة والمرح.

 كان حضوره يغير المزاج العام، يزيح الغمامة عن الوجوه، ويحول غرف الرعاية من مكان للانتظار إلى مسرح صغير للحياة.

ربما لم يكن عم سمير طبيبًا ولا معالجًا، لكنه بلا شك كان دواء لقلوب كثيرة بلا وصفة طبية، دواء اسمه البهجة، وجرعته اليومية لحن قديم مُعتبر تنبعث من راديو يرفض أن يشيخ.

وربما هي تلك الرسالة التي يتركها عم سمير خلفه لكل من يراه أن المرض لا يسرق الفرح، وأن الروح حين تتمسك بالحياة تظل أكبر من أي ألم، فكما يُصر راديوه العتيق على بالأغاني رغم ضجيج الأجهزة، يُصر قلبه على أن يوزع الأمل رغم تعب الجسد.

في عينيه حكاية تقول لنا جميعا ابتسم فربما تكون ابتسامتك شفاء لغيرك قبل أن تكون لك.

كان بعض المرضى الجدد يدخلون الرعاية بقلوب مثقلة بالقلق والخوف، لكن ما إن يلتقوا بعم سمير حتى يذوب الجليد من حولهم، بكلمة خفيفة أو نكتة عابرة، يبدد رهبتهم ويجعلهم يشعرون أن المستشفى ليست فقط مكانا للعلاج، بل مساحة يجدون فيها صديقًا حقيقيًا.

حتى الأطباء كانوا يقولون مازحين "إحنا عندنا ممرض سري اسمه عم سمير".

أخبار الساعة

الاكثر قراءة