الإبداع ليس حكرًا على أصحاب المواهب من الأدباء والفنانين، ولكنه الأساس في كل عمل إنساني، فكل عمل يسعى بجد واجتهاد إلى التجديد والتجويد، هو عمل إبداعي بامتياز. وهذا الإبداع ليس بعيدًا عن المقاتلين والمقاومين على جبهة القتال مع الأعداء، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تأتي بطولات الشهيد البطل إبراهيم الرفاعي طوال حربَي الاستنزاف وأكتوبر على قمة الإبداع. وإذا أردنا أن نعدد الأعمال الحربية المبدعة طوال حربَي الاستنزاف وأكتوبر، فنحن في حاجة إلى مجموعة من الكتب، وليس مجرد كتاب واحد. فعلى مدى أكثر من ثلاثة أعوام ونصف (1041 يومًا)، قدم المقاتل المصري خلال حرب الاستنزاف أكثر من 4400 عملية حربية ضد العدو، الغالبية العظمى منها، إن لم تكن كلها، عمليات غاية في الإبداع والإتقان. فهل ننسى عمليات رأس العش، تدمير المدمرة إيلات، دخول ميناء إيلات خمس مرات، ضرب مطار الطور ثلاث مرات، السبت الحزين، لسان بورتوفيق، لسان التمساح... إلخ.
وخلال عمليات انتصار أكتوبر قدم المقاتل المصري عدة آلاف من العمليات المبدعة الجماعية والفردية (غلق أنابيب النابالم، تدمير الساتر الترابي بمدفع المياه، معارك الدبابات، السيطرة على كل النقاط الحصينة... إلخ)، مما جعل من هذا الانتصار سيمفونية للبطولة، عزفها بكل الدقة والإتقان والإبداع، أوركسترا الأبطال.
ورغم عشرات الكتب التي صدرت حتى الآن عن بطولات حربَي أكتوبر والاستنزاف، وأشرف بأن غالبية كتبي عن هذه البطولات، إلا أن سيمفونية البطولة وأوركسترا الأبطال يستحقون أكثر من هذا بكثير. فهذه البطولات في حاجة إلى مشروع قومي يعمل على جمع كل تلك البطولات، ومن حسن الحظ أن الآلاف من أبطال أكتوبر ما زالوا على قيد الحياة، وعلينا أن نبادر بتسجيل كل ما لديهم من ذكريات ومذكرات.
ولم تقتصر الكتابة عن بطولات أكتوبر والاستنزاف على الكتب التي أصدرها المؤرخون والمحللون السياسيون، فهناك العديد من الإبداعات الأدبية شعرًا وقصة ورواية، وإن كانت هذه الإبداعات من حيث الكم أقل كثيرًا مما تستحقه هذه البطولات.
وقد برز من بين تلك الإبداعات مجموعة من الروايات والمجموعات القصصية، كتبها عدد من الأدباء المبدعين الذين شاركوا كمقاتلين على جبهة القتال في حربَي الاستنزاف وأكتوبر. وقد استطاع الأديب المبدع أحمد عبده أن يجمع أكبر قدر من هذه الإبداعات، وأن يُلقي عليها الضوء، خاصة وأنه أحد المبدعين الذين ساهموا إبداعًا وتاريخًا في رصد هذه البطولات.
ويتقدم صفوف كتيبة المبدعين الأديب الكبير الراحل فؤاد حجازي، ابن المنصورة الذي أبدع كثيرًا وكان يستحق الكثير من الإضاءات النقدية على أعماله شديدة التميز. ولكن ابتعاده عن نداهة القاهرة، وإصراره على الإقامة في المنصورة، لم يحقق له الجماهيرية التي يستحقها عن جدارة. وقد رصد فؤاد حجازي البطولات التي شارك فيها خلال حربَي الاستنزاف وأكتوبر في مجموعتين قصصيتين وثلاث روايات هي: سلامات مجموعة قصصية صدرت عام 1969، المحاصرون مجموعة قصصية صدرت عام 1972، الأسرى يقيمون المتاريس رواية مهمة ترصد معاناة الأسرى في سجن عتليت، وصدرت عام 2001، رجال وجبال ورصاص رواية صدرت عام 1997، وأخيرًا رواية الرقص على طبول مصرية، التي صدرت عام 2000. ورغم تميز كل هذه الأعمال، إلا أن رواية الأسرى يقيمون المتاريس هي التي حظيت بالقدر الأكبر من المتابعات النقدية.
ويأتي بعد ذلك الأديب مجيد طوبيا، الذي قدم روايته الرائعة أبناء الصمت، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي متميز، يقدم الكثير من جوانب بطولات حرب الاستنزاف.
وقد تميز الأديب الراحل جمال الغيطاني بعمله كمراسل عسكري لجريدة الأخبار خلال حربَي الاستنزاف وأكتوبر، وقد ارتبط بالعديد من الصداقات مع الكثير من الأبطال، وأفرزت هذه التجربة روايتيه الرفاعي، عن بطولات الشهيد إبراهيم الرفاعي ومجموعته من أبطال الصاعقة، التي كانت تُعرف بالمجموعة 39 قتال، ثم روايته حكايات الغريب، التي تحولت إلى فيلم تليفزيوني رائع. وهذه الرواية تحديدًا، رغم أنها لم تتعرض للبطولات العسكرية بشكل مباشر، إلا أنها من أكثر الروايات تعبيرًا وتجسيدًا عن انتصار أكتوبر، حيث تتحدث عن البطل (المطلق)، الذي يؤكد أن المصريين جميعًا كانوا أبطالًا خلال هذه الحرب.
وقد شارك الدكتور سيد نجم في حرب أكتوبر كطبيب في سلاح الخدمات الطبية، مما جعله على احتكاك مباشر مع قصص وبطولات العديد من الجرحى الذين استقبلهم في المستشفى الميداني، وعمل على مداواة جروحهم. وقد أفرزت تلك التجربة روايته السمان يهاجر شرقًا.
كما شارك الأديب بهي الدين عوض بثلاثة أعمال رصدت بطولات حربَي الاستنزاف وأكتوبر، وهي رواية أنشودة البطل، ورواية الخيول الشاردة، والمجموعة القصصية الفارس الآتي إلينا.
أما الأديب السكندري رجب سعد السيد، فقد أفرزت تجربة مشاركته في حرب أكتوبر روايته المهمة نقوش الدم، التي صدرت عن هيئة الكتاب عام 1987.
كما أصدر الشاعر الروائي ابن كفر الشيخ سمير الفيل رواية بعنوان رجال وشظايا. وعلى ذات الدرب سار الأديب محمود عرفات، الذي أصدر روايته سرابيوم ضمن سلسلة روايات الهلال.
وقامت الهيئة المصرية العامة للكتاب بتخصيص سلسلة خاصة من إصداراتها تحت عنوان أدب الحرب، كان يشرف عليها الأديب الراحل جمال الغيطاني، وصدر عنها العديد من الروايات والمجموعات القصصية، ومنها رواية الدشمة للأديب محمد شاكر الملط، ورواية الحرب في بر مصر للأديب يوسف القعيد، التي تحولت إلى فيلم سينمائي رائع بعنوان المواطن مصري بطولة عمر الشريف، عزت العلايلي، وعبدالله محمود. وفي ذات السلسلة صدرت روايتان للأديب علي حليمة هما مكان تحت الشمس وقنطرة حمامة.
كما أصدر الكاتب الصحفي والروائي محمود الورداني روايتين هما طعم الحريق ونوبة رجوع.
أما الأديب البورسعيدي الراحل قاسم مسعد عليوه فقد أصدر مجموعته القصصية لا تبحثوا عن عنوان إنها الحرب.
وأصدر الأديب السويسي الراحل محمد الراوي روايته عبر الليل نحو النهار. وعلى ذات الدرب سار الأديب الإسماعيلاوي محمد عبدالله عيسى فأصدر روايته الدم وشجرة التوت.
كما أصدر السفير معصوم مرزوق، أحد أبطال الصاعقة في حرب أكتوبر، روايته أشجار الصبار. أما الشاعر ابن القليوبية عبدالعزيز موافي فقد أصدر روايته الطريق إلى رأس العش. وكان هناك مشروع لضم هذه الرواية التي تقدم بعض بطولات حرب أكتوبر إلى كتابي رأس العش، الذي يقدم تفاصيل أول عمليات حرب الاستنزاف (30 يونيو 1967)، لإنتاج مسلسل تليفزيوني، ولكن المشروع توقف من دون إعلان أي أسباب.
وأصدر الأديب السكندري مصطفى نصر روايته الإسكندرية 67.
كما أصدر الأديب محمد أبوطالب روايته رجال مروا من هنا.
أما الأديب السكندري الكبير سعيد سالم فقد أنتجت مشاركته في حرب أكتوبر روايتيه الأزمنة والوجه والقناع.
كما أصدر الأديب أحمد عبده عملَيه الأدبيين ثعالب في الدفرسوار وأسطورة الجناين.
وأصدر الدكتور حسن البنداري روايتين ومجموعة قصصية هي العائد بالحب، فوق الأحزان، يوم.
وبعيدًا عن الأدباء الذين خاضوا غمار الحرب واستطاعوا تحويل تجاربهم إلى كتابات إبداعية في مجالي الرواية والقصة القصيرة، هناك مجموعة من المبدعين من غير المقاتلين ومن أجيال مختلفة كتبوا مجموعة من الأعمال الأدبية عن بطولات الحرب، ومنهم الأديبة المصرية المهاجرة د. جمال حسان التي أصدرت أربع روايات هي: 1956، الطريق إلى بودابست، بورتوفيق، من شدوان إلى الأدبية، ثم الأديبة آمال زيدان التي أصدرت روايتها هكذا يعبثون، ثم الكاتب الصحفي والأديب سعد القرش الذي أصدر روايته حديث الجنود. وهناك غير ذلك الكثير من الأعمال الإبداعية عن أدب الحرب.
ورغم عشرات الكتب التي صدرت عن بطولات حربَي الاستنزاف وأكتوبر في مجالي التاريخ والإبداع، إلا أن تلك البطولات ما زالت في احتياج شديد إلى العديد والعديد من الدراسات التاريخية، والكتابات الإبداعية. ولن يتحقق ذلك إلا بالإفراج الكامل عن كل وثائق ومستندات تلك البطولات.
وقد حرصت القوات المسلحة المصرية، في ذكرى مرور 25 سنة على انتصار أكتوبر عام 1998، على إقامة ندوة استراتيجية موسعة، نتج عنها إصدار كتابين كبيرين فيهما الكثير عن بطولات النصر. وفي الذكرى الخمسين لانتصار أكتوبر عام 2023، أقامت القوات المسلحة العديد من الندوات، وقدمت لوسائل الإعلام الكثير من الوثائق والبطولات. ورغم هذا فإننا لم نقدم إلا القليل عن تلك البطولات. ويكفي أن نعلم أن الذين خاضوا تلك الحرب اقتربوا من المليون بطل، وكل بطل فيهم يحتاج ليس إلى مقال أو دراسة ولكن إلى كتاب كامل. لنصبح أمام مطلب وطني ملح، وهو ضرورة وجود المشروع القومي لتسجيل بطولات حربَي أكتوبر والاستنزاف.