من الأيام المشهودة في تاريخ مصر الحديث، يوم له مجده التاريخي ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي خاصة والعالم كله بصفة عامة، يوم سجلت فيه الجندية المصرية ملحمة العبور والنصر، بل تاريخية الانتصار الذي شهد به الأعداء، وقُهِرت فيه أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، واستطاعت مصر بجنودها الأبطال أن تسطر تاريخًا مجيدًا للنصر والانتصار الذي دوى في الشرق والغرب، وحفر الجندي المصري بدمه الطاهر سجلًا حافلًا بالنصر، تُروى سيرته الطاهرة عبر التاريخ يتعلم منها الأجيال دروس الإبداع في تحقيق النصر.
وتوقف العالم يستمع إلى أنشودة الانتصار المصري الذي بناه أبناء النيل على تراب سيناء الطاهرة، والتي ظل يخيم عليها الحزن أعوامًا حتى أشرقت على ترابها شموس أبنائها الأطهار، جنود النصر، يرفعون شعار النصر في أجمل نشيد تهتف به القلوب والألسنة مع طلقات المدافع بيد أبطال مصر البواسل، لتقف الشمس في وسط الظهيرة تهلل لهم وتسطع بهم ليحطموا خط بارليف، وتتلألأ أنوار الشهداء لتزيل ظلام العدو من أرض الفيروز، سيناء المجد والطور، ليتجلى الله بتأييده ونصره ومعونته لقهر العدو، الذي ظن أنه لا يُقهر، وأنه سيظل في أرض التجلي، وهو لا يدري أنها تلعنه وتتمنى ذلك اليوم، يوم المجد التليد الذي أبهرت فيه الجندية المصرية بكافة جيوشها وكتائبها وسراياها. لتتعانق أسراب الطائرات مع كتائب الدبابات وأسراب المشاة بقذائف المجد التي ينادي بعضها بعضًا لترسم شعارًا يحلق فوق قناة المجد، لتعود سيناء إلى أمها وترتوي بدماء شهدائها، وتنير بهم جبال سيناء ليعود لها نورها ومجدها الذي لا يغيب، مجدًا وشموخًا للجندي المصري الذي واصل الليل بالنهار يرسم خطى مجده ويخطط لموكب النصر المشهود الذي ظل العالم والوطن ينادي به عقودًا غابرة، فكان عبق تاريخ النصر مرهونًا بدماء أبناء مصر الذين ارتووا من النيل الخالد، وعرفوا قيمة تراب الوطن الغالي، لأرض استنارت بأنوار الأنبياء، وعاش عليها كليم الله وكلمة الله عليهما السلام، ومر بها الخليل وخاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
إن يوم السادس من أكتوبر لم يكن مجرد يوم انتصر فيه جيش على عدوه، وإنما يعد ملحمة مليئة بالانتصارات، بل ومتنوعة الإبداعات المتعددة والمتنوعة على كافة المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، لأنه أعطى العالم درسًا مهمًا في أن الحق لا بد يومًا أن يعود لصاحبه، وأن الباطل مهزوم أبدًا مهما علا وطغى، فلا يدوم باطل أبدًا، وكما قال الله تعالى: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا".
إن الإبداع في تحقيق ذلك النصر المظفر في ذلك الوقت العصيب، يعبر عن مدى ما عليه شعب مصر وجند مصر من العقلية النادرة التي تُعلِّم العالم كيف تكون الحياة، وكيف يكون إدارة الحروب والمعارك وتحقيق ليس مجرد النصر ولكن ملحمة واستراتيجية النصر.
وما أكثر الروايات التي تُروى ملاحم تلك البطولات النادرة التي سجلها كل جندي في أرض مصر وكل مصري في ملاحم أمجاد أكتوبر المجيد، والإعداد لتلك الملحمة التي شارك فيها كل شرفاء مصر بكل ما يستطيعون وعلى حسب موقع كل منهم، حتى كان الجندي في خط القتال يقاتل ببأس وقوة من ورائه من الأبطال الرجال والنساء الذين يعيشون في النجوع والأحياء وبين المصانع والحقول، الكل على قلب رجل واحد، وجندي واحد، تنبض القلوب نبضة واحدة، وتلهج الألسنة نشيدًا واحدًا:
الله أكبر. تحيا مصر.
معالم الإبداع في صناعة المجد التاريخي الذي صنعه أبطال مصر، في سبيل استعادة العزة والكرامة التي ينشدها كل عزيز من الجنوب إلى الشمال، وتطهير هواء دنسته الصهيونية بغدرها وفجورها، في ظل التحديات التي يعاني منها المجتمع آنذاك، يجعل النصر مزدوجًا، والملحمة إبداعية وجديرة بأن تسجل في سجل الخالدين، وتكشف عن حقيقة المعدن الأصيل للجندية المصرية والشعب الذي تضرب حضارته في أعماق التاريخ، وأنه لا يمكن بحال الاستهانة بمصر ولا جيش مصر، ولا رجال مصر لأنهم أبناء مجد وحضارة، ولهم تاريخ في البناء والمدنية. ولهذا أوصي بهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جندًا كثيفًا، فإنهم في رباط هم وأهليهم إلى يوم القيامة".
وهذا معناه أن الشخصية المصرية لها خصائص ليست كغيرها، حيث التكاتف والتعانق والترابط بين أبناء المجتمع، والبناء المشترك الذي يدفعهم إلى الوحدة والتعاون لتحقيق القوة في مواجهة التحديات، والتي تجعل لهم الريادة الدائمة في كل مجالات الحياة.
وهذا لا يوجد في تاريخ البطولات المصرية في كل مجالات إبداعاتها ما يشير إلى أي نوع من التفريق بين الدم المصري ولا بين العقل المصري المفكر، فهذا العقل الذي أبدع ما يدمر بارليف عقل مصري تربى في تراب مصر وشرب من نيل مصر.
اللواء باقي زكي يوسف والمشير عبد الغني الجمسي واللواء نبيل شكري وغيرهم لا تعرف عن هذا أو ذاك إلا أنهم جنود مصر البواسل الذين ضحوا بكل شيء في سبيل رفعة مصر وعزتها.
وقد حفل سجل التاريخ بمجموعة كبيرة من الشعر الذي يجسد ملحمة التاريخ والعبور والنصر، ويروي للأجيال ملحمة البطولات المصرية النادرة. عدد من القصائد الشعرية كان على رأسهم الشاعر صلاح عبد الصبور، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وغيرهم، فلا يمكن حصر ما كتب وما قيل لأن الحدث كبير والملحمة ليست شيئًا بسيطًا ولكنها ملحمة تاريخ البطولة المصرية النادرة.
فمثلًا كتب الشاعر صلاح عبد الصبور قصيدة عن أول جندي يرفع علم مصر بعد الانتصار في حرب 1973 منها ما يلي:
تملّيناك، حين أهلَّ فوق الشاشة البيضاء،
وجهك يلثم العلَمَا
وترفعه يداك،
لكي يحلق في مدى الشمس،
حرَّ الوجه مقتحمًا.
ولكن كان هذا الوجه يظهر، ثم يستخفي.
ولم ألمح سوى بسمتك الزهراء والعينين،
ولم تعلن لنا الشاشة نعتًا لك أو اسمًا.
ولكن، كيف كان اسم هنالك يحتويك؟
وأنت في لحظتك العظمى
تحولت إلى معنى، كمعنى الحب، معنى الخير، معنى النور، معنى القدرة الأسمى.
تراك،
وأنت في ساح الخلود، وبين ظل الله والأملاك،
تراك، وأنت تصنع آية، وتخط تاريخًا،
تراك، وأنت أقرب ما تكون
إلى مدى الشمس والأفلاك.
هكذا يُحكى أمجاد أولئك الأبطال الذين سطروا تاريخًا مضيئًا، سيظل يخلِّد مجدًا مصريًا للتاريخ مهما تباعد الزمن.
إنها حكاية جنود أخلصوا في حب الوطن وعشقوا ترابه، فكانت أرواحهم تتناغم مع الشمس والأفلاك لتمحو أثر أرجل المغتصب من على غبار التراب الشريف.
وهذا الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة يُبيِّن تنافس الجنود الذين ما إن أتيحت لهم الفرصة ليروا هواء سيناء وعطرها حتى يطيروا، يسابقون الريح من كل اتجاه، فلم يعرف من يراهم أين هم والنجوم الزواهر، حتى رفرف العَلَم، علم مصر، بلد الأبطال الشوامخ، لتحيا مصر، تحيا مصر. والقصيدة بعنوان: "خفقة علم"
أفديك يا سيناء.
وزغردت من قلبها السماء.
وانهمر الجنود، يسابقون الريح والأحلام.
وترسم الدماء خرائط النهار والمساء.
على صحائف التاريخ والجبال.
في الماء كانت النجوم تعبر القناة.
وفي الرمال قالت المانعات: لا.
وفي ذؤابات الشجر،
ابتسم الحمام، ثم فك قيده وطار للسحاب.
وفوق صخرة عالية الإباء،
رفرفت أيها العلم.
يا قلبنا المليء بالأشواق والغضب.
كل خفقة تقول مصر،
نسيجها الضياء والظفر.
ومن هذا الإبداع شعر عامية لعصام خليفة بعنوان: "إلى شهداء أكتوبر"..
العابرون
(وسَلهم إذ هم عبروا
بماذا أقسم الحجرُ..
بمن أضحوا بوجه الخوف لم يبطئهم الحذرُ،
بمن مدّوا لقرص الشمس موعدهم،
وساعةُ صفرهم كانت بها الإبداعُ ينبهرُ،
فلم يُخبر بها ليلٌ ولا فجرُ،
وكان المجد أن يحظى بها الظهرُ.
رجالٌ في تلاقيهمْ…
وأبسطُ عابرٍ فيهمْ
يخطّ بدفتر التاريخ ما لا يألف البشرُ.
حكاياتٍ سيرويها حديثُ الناس والأثرُ،
لجنديٍّ
يودع أمه السمراء ذات القلب ينفطرُ،
يغادر صمتَ قريتهِ..
يبارك خطوه الفجرُ،
تغلّفهُ…
وجاهةُ زيّه الرسميّ والثأرُ،
ويسكن قلبَه الصخري عزمٌ ليس ينكسرُ،
ويسكن عقلَه القرويّ أن الأرض مثل العرض،
يهنأ فيها من صمدوا ومن ظفروا،
وأن دماءه ستهون حين يثيره الضجرُ،
وأن الجدّ قال الحق من زمنٍ وقد غدروا:
"بنو صهيون قد فجروا".
تحرّكه أناشيدٌ…
لجندٍ بات كالبركان ينفجرُ،
له في الرحلة العظمى خياراتٌ محدّدةٌ،
فإما أنت منتصرٌ،
وإما أنت منتحرُ.
فيسرع نحو عمق الأفق يعبر جسر نكسَتهِ،
فيلمس رملَ ضفتِهِ،
ويرفع شأن رايتِهِ،
ويسقط تحتها عشقًا…
ويحتضرُ.
فتُستثنَى شهادتُه ُ،
لتبدع عندها الصورُ.
يقبّل ثوبه الرملُ…
ويحضن روحه القمرُ.
يُزَفّ لدفء قريتِهِ،
فيرجع جسمه العطرُ،
لطفلٍ لم يزل يحبو،
وبيْتٍ ظلّ ينتظرُ،
وأمٍّ قضّها الخبرُ،
وأمست من صلابتها…
يجمّل وجهها الفخرُ،
ويسكن قلبَها الصبرُ.
تردد وسط فجعتها…
لقد ذهب الذي في كفّه التبرُ،
وباستهلال طلّتهِ…
تهون مصائب الدنيا وتنحسرُ).
فهذه الصورة الجمالية تُصوِّر إبداع الجندي المصري وهو لا يطلب إلا النصر أو الشهادة، وما أجملهما وأعظمهما من خيارات.
حفظ الله مصر وجيش مصر وقائد مصر من كل مكروه وسوء.