الأحد 5 اكتوبر 2025

مقالات

أكتوبر في مرآة الأدب "الرصاصة والكلمة"

  • 5-10-2025 | 12:34
طباعة

"تقاس كل الانتصارات بمدى ما تُحدثه في النفوس من ثقة، وفي الوعي من يقظة، وفي المستقبل من أمل، وليست بعدد الكيلومترات التي تم عبورها"

وفي حياة الشعوب لحظات فاصلة، يأتي في مقدمتها يوم 6 أكتوبر، أخلد أيامنا العربية، لأن هذا اليوم جاء بعد مرحلة توهَّم العالم فيها أن العروبة قد لفظت أنفاسها، وأن الإنسان العربي قد فقد القدرة على الحركة نحو المستقبل، وأن الهزيمة قد حاقت به إلى الأبد، ولكن هذا اليوم المجيد دحض تلك الأوهام، وفنَّد تلك المغالطات، وأثبت للعالم أن العرب قد يخسرون معركة، ولكن إرادة النصر كامنة في أعماقهم لا تموت، وأن مواجهة التحديات ودحرها هي أبرز خصائص هذه الأمة.

وجاء أكتوبر ليقول بكل قوة: ها أنذا، مقدرة على التنظيم، وكفاءة في التخطيط، وبسالة في الاقتحام.

لقد كشفت حرب أكتوبر حقيقتين: أن العامل البشري هو حجر الزاوية في المعركة الحديثة، وأن العرب قادرون على اللحاق بركب التقدم الحضاري.

وفي زخم هذه الملحمة يبقى سؤال: هل استطاع الأدب، الذي هو ضمير أمتنا ووجدانها الحضاري، أن يرتفع إلى مستوى هذا اليوم، وأن يتعادل مع قامته، وأن يعبِّر عن دلالته؟

لم يقف الأدب صامتًا أمام هذا الحدث، فكما أن الجندي عبر القناة، فقد عبر الكاتب خنادق الهزيمة ليعيد تشكيل الوعي ويرسم ملامح الأمل.

وفي هذا السياق، يرى الكاتب الكبير الراحل يوسف السباعي أن الأديب هو انعكاس طبيعي لما يحدث في مجتمعه، وهو نبضه ومرآة أحداثه. لذلك علينا أن نعرف مدى تأثير هذا الحدث في مجتمع الأمة أولًا، لأن الأدب في جوهره تعبير عن هذا الواقع.

لقد أعادت حرب أكتوبر الثقة إلى النفوس، وأزالت الشعور بالانكسار، وبعثت روح العزة والكرامة، وهو ما ترك أثرًا بالغًا في الإبداع الأدبي، لكن الاستجابة الأدبية تنوَّعت وفقًا لطبيعة الأشكال الأدبية، فالقصيدة، والمقال، والقصة القصيرة كانت أكثر قدرة على الاستجابة السريعة للحظة النصر؛ وشهدنا بالفعل عشرات القصائد والقصص والمقالات التي احتفت بالانتصار وجسدت روح البطولة في أمتنا.

أما الرواية، فهي تتطلب وقتًا لكي تنصهر الأحداث في نفس الكاتب وتتشكل ملامحها، مما يمنحه النظرة الأشمل والأكثر إحاطة. وهذا ما حدث مع أحداث تاريخية سابقة كثورة 1919 وثورة 1952، حيث كتب توفيق الحكيم رواية عودة الروح عن ثورة 1919 بعد سنوات طويلة من وقوعها.

ويرى الأديب الكبير نجيب محفوظ أنه من غير الطبيعي أن تمر حرب أكتوبر دون أن تترك أثرًا عميقًا في الأدب، لما حملته من معانٍ وتجارب صادقة كشفت عن جوهر الإنسان العربي وقدرته على التضحية والانتصار. وقد ظهر هذا التأثير جليًّا في عشرات القصائد، وكتب الأدباء – خاصة من خاضوا المعركة بأنفسهم – مئات القصص التي عبَّرت عن أجواء الحرب، وأظهرت صدق التجربة وحرارة المعاناة، وأضافت إليها رؤية الفنان المبدع.

ولم يقتصر تأثيرها على ما كُتب عنها مباشرة، بل امتد إلى أعمال استلهمت قيمها كالكرامة والبطولة والحرية. ولهذا تشكَّلت ما يمكن تسميته بـ"مكتبة أكتوبر" التي تعكس روح مرحلة كاملة، وتُثبت أن هذه الحرب لم تكن حدثًا عابرًا، بل محطة فارقة ستظل تلهم الأدب العربي لأجيال قادمة، لأن الحقيقة التي صنعتها كانت أعمق من أي خيال.

وأكد الناقد الراحل د. عبد العزيز شرف أن الأدب والفن كانا دومًا جزءًا من جبهة المقاومة، لا ينفصلان عن ساحة القتال. ويستشهد برسالة كتبها القائد الفيتنامي "هو شي منه" إلى الأدباء الفيتناميين قال فيها:

"إن الأدب والفن ينتميان إلى جبهة واحدة، إلى الجبهة التي يقاتلون ضمن صفوفها، وما شأنكم إلا كشأن المقاتلين الآخرين".

هذا الفهم ينطبق على الحالة المصرية، حيث لم تكن حرب أكتوبر ثمرة لحظة طارئة، بل حصادًا لمقدمات بدأت منذ نكسة 1967، التي ولَّدت موجة من "أدب التصحيح" و"أدب المقاومة". أعمال مثل العمر لحظة ليوسف السباعي، وشيء من الخوف لثروت أباظة، وروايات نجيب محفوظ، ونصوص توفيق الحكيم ويوسف القعيد، عبَّرت عن وعي شعب يرفض الهزيمة ويبحث عن الخلاص.

وقد وصف نجيب محفوظ تلك المرحلة بأن المصري "كان يسير في الأسواق مرتديًا قناع الذل"، حتى جاء عبور أكتوبر الذي لم يكن فقط اختراقًا للجبهة، بل أيضًا عبورًا للهزيمة النفسية. كما قال توفيق الحكيم: "نعم، عبرنا الهزيمة بعبورنا إلى سيناء... لكن الأهم هو ما حدث في داخلنا".

كما شارك العديد من الشعراء في صياغة وجدان الأمة بقصائد تهتف بالصمود والتحدي.

وهكذا كان الأدب المصري، قبل المعركة وأثناءها وبعدها، شريكًا في النصر، لأنه لم يكتفِ بوصف الواقع، بل ساهم في تغييره، وجعل من الكلمة فعلًا مقاومًا.

"فالكلمة رصاصة الأدب القادرة على أن تحفر في جبين الذاكرة ما حفرته الرصاصة في جبين التاريخ لتحوِّل ملاحم البطولة إلى تراث إنساني خالد".

الاكثر قراءة