الأحد 5 اكتوبر 2025

مقال رئيس التحرير

ضُربت عليهم الذلة

  • 5-10-2025 | 11:42
طباعة

كان القلق الممزوج بالحزن والذل باديًا على وجهها، وقفت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، “المهزومة”، فى انتظار الطائرة التى تقل أسرى جيشها المهزوم، بعد أن أفرجت مصر “المنتصرة” فى 6 أكتوبر 1973 عنهم عقب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار..


المشهد بكل تفاصيله كان يعبر عن الهزيمة النكراء والعار الذى ألحقته حرب يوم كيبور، كما يسميه الإسرائيليون بجيش الاحتلال، الذى كان يصف نفسه بأنه لا يقهر، ولكن قهره المصريون وأذلوه فى 6 ساعات.
الذل الذى كان يكسو وجه جولدا ليس مجرد كلمة عابرة، بل توصيف دقيق للزلزال، الذى أصاب دولة الكيان الصهيونى يوم السادس من أكتوبر 1973.


لم تطق جولدا الانتظار، وصعدت إلى الطائرة فور هبوطها، وهالها ما رأته بأم عينيها، العار متجسد أمام ناظريها، هنا بدأت تبكى بحرقة وتذرف الدمع الغزير، رأت جنودها أذلاء يكسو وجوههم عار الهزيمة، ويرتدون ثوب الهوان (بيجامات كستور محلاوى ماركة صنع فى مصر)، إمعانًا فى الإذلال ورسالة مصرية مفادها “علمنا عليكم”.


“البيجامات الكستور” كانت فكرة مصرية عبقرية، لم يكن الأمر زهو المنتصر بقدر ما كان إقرارًا بالحق، فمصر العظيمة يقول عنها التاريخ إنها مقبرة الغزاة، وكانت كذلك بالفعل فى حرب أكتوبر 1973.


نصر السادس من أكتوبر لم يكن صبر ساعة، ولكنه كان صبر 6 سنوات كاملة عاشها المصريون ينتظرون بشوق ولهفة لحظة العبور، أعدوا ما استطاعوا للعدو من قوة شاملة، وقبلها أعدوا أنفسهم وأقسموا على النصر أو الشهادة لا يتركون سلاحهم حتى يذوقوا الموت. 


المصرى كان كلمة السر فى نصر أكتوبر، الحرب لم تكن على الجبهة فقط ولا فى منطقة القناة وأرض سيناء المباركة، ولكنها كانت فى كل شبر من أرض مصر المقدسة، من الصعيد إلى القاهرة ومن الإسكندرية إلى قلب الدلتا ومن مطروح وحتى سيناء، كل بيت فى مصر كان فى حالة حرب، جبهة داخلية قوية متماسكة تنتظر ساعة النصر..


“ابنك يقولك يا بطل هات لى نهار.. ابنك يقولك يا بطل هات لى انتصار”. ينطلق صوت الأغنية من وراء أحد أبواب البيوت الطيبة، فيأتى الرد من البيت المقابل: “أحلف بسماها وبترابها”.


اليقين فى النصر كان حال كل مصرى فى بلد تاريخها يصنع المعجزات ولا يعرف كلمة المستحيل، وتحقق النصر وانتصرنا فى حرب كتب لنا فيها أن نذل العدو ونذيقه مرارة الهزيمة وبأس المصريين.


فى تل أبيب كان مشهد الذل على سلم طائرة أسرى العدو، صعدت جولدا وهى تبكى بحرقة فى استقبالهم وهم يرتدون “الكستور”، وفى ذهنها سؤال محير تبحث له عن إجابة: ماذا فعل بكم المصريون قبل أن تلبسوا البيجامات؟ وجاءتها الإجابة من وجوه الأسرى وهم مطأطئو الرأس ينظرون إلى الأرض بخزى وعار.


مشهد مهين لن ينساه العدو أبد الدهر، ولسان حال جولدا: “يا للعار الذى لحق بنا ولن يمحوه الزمن”، ثم تنهمر دموعها دون توقف. 


العار والذل سجلته مائير بخط يدها: “ليس أشق على نفسى من الكتابة عن حرب يوم كيبور، ولن أكتب عن الحرب من الناحية العسكرية، ولكن سأكتب عنها ككارثة ساحقة، وكابوس عشته بنفسى وسيظل معى باقيًا على الدوام”.


فى قبرها لن تنسى جولدا نار الهزيمة، التى رأتها فى الدنيا يوم السادس من أكتوبر على يد الجيش المصرى، وسيبقى محفورًا فى ذاكرة أبناء الكيان مشهد الأسرى بالبيجامات الكستور.


لم تعرف مصر أبدًا عبر تاريخها الاستسلام والخضوع، ترد الصاع صاعين وتدافع عن أرضها بالغالى والنفيس، وتبقى ملحمة أكتوبر شاهدة على بسالة وقوة الشعب المصرى العظيم، وإذا كان جيشنا المنتصر استطاع أن يفعلها مرة سيبقى قادرًا على فعلها فى كل مرة، نحن لسنا دعاة حرب، ولكن إذا كتب علينا القتال فنحن أهله وخاصته، وأرضنا نحفرها قبورًا لمن تسول له نفسه أن يقترب منها.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة