شهر أكتوبر، الذي يتردد صداه في وجدان المصريين كرمز للنصر والتحرير في حرب 1973، لكنه يحمل في طياته وجها آخر مظلما، خريفا طويلا للدماء والفكر الهدام.
ففي أكتوبر 1906، وُلد حسن البنا وسيد قطب، اللذان شكلا النبع الأول للإرهاب الفكري والسياسي الذي عانت منه مصر والمنطقة العربية لعقود. وفي أكتوبر 1928، تأسست جماعة الإخوان رسميا في مدينة الإسماعيلية، لتصبح نواة لتنظيم سري عابر للحدود. وفي أكتوبر 1954، حاولت الجماعة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية. وفي أكتوبر 1981، اغتال تلاميذ فكرها أنور السادات على منصة النصر. ثم جاء أكتوبر 1982، حين أُعلنت اللائحة الرسمية للتنظيم الدولي للإخوان، ليصبح العنف مشروعا عالميا محكم البنية. هذه ليست مصادفات زمنية عابرة، بل محطات مفصلية في تاريخ جماعة ولدت في الخفاء وعاشت على الدماء. إنها إشارات رمزية إلى خريف طويل لفكر دموي، لا تسقط فيه أوراق الشجر بل تسيل فيه دماء الأبرياء.
قراءة سيرة حسن البنا وسيد قطب ليست استدعاء لتاريخ أشخاص رحلوا، وإنما تشريح لجذور الإرهاب الذي امتد من “الجهاز الخاص” إلى “القاعدة” و”داعش”، ومن التنظيم الدولي إلى الخلايا النائمة التي تتحرك في الظل.
حسن البنا، مدرس الخط القادم من ريف البحيرة، لم يولد في فراغ. وُلد عام 1906 في بيئة مصرية مضطربة بين احتلال بريطاني خانق، ودولة حديثة لم تكتمل، وطبقات مسحوقة تبحث عن أمل. كان والده، أحمد عبد الرحمن الساعاتي، رجلا غامضا وفد إلى المحمودية بالبحيرة من قرية شمشيرة بكفر الشيخ، والغريب أن أصله مجهول ، فلم تكن له عائلة في شمشيرة بل كان يعيش فيها على الهامش محاطا بنظرات الريبة من أهلها، حتى اضطرّ إلى الهجرة منها إلى المحمودية، وهناك اشتغل في تصليح الساعات، وأخذ يجمع مخطوطات الكتب الدينية ويظهر بالمظهر الديني حتى يصبح مقبولا من أهلها ، وأخذ يدعي أنه من المقربين من جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وهو لم يرهما من قبل.
من هذه البيئة خرج الابن الأكبر حسن بعد أن أعطى له والده في شهادة ميلاده لقب البنا، فظهر أنه يحمل طموحا أكبر من قريته الصغيرة.
وكان أول مسار ديني له كان عندما انجذب للطرق الصوفية، وحضر جلسات الذكر، وفي الوقت نفسه انفتح على التعليم النظامي حتى تخرج من المدرسة التجهيزية لدار العلوم معلما للخط العربي عام 1927. هذا المزج بين الدين الشعبي، والتربية الصارمة، والتعليم العصري، والأصل المجهول، أعطاه شخصية مركّبة: واعظا يعرف كيف يخاطب الجماهير بلغة بسيطة، وسياسيا يخبئ وراء خطابه مشروعا منظّما.
وفي عام 1928، في مدينة الإسماعيلية، جلس ستة من عمال شركة قناة السويس حول البنا في غرفة صغيرة، وبايعوه على “السمع والطاعة”، مقسمين أن يضحوا بأموالهم وأرواحهم.
كانت لحظة تبدو متواضعة، لكنها كانت ميلاد جماعة ستغير وجه مصر والعالم. إلى أن نقل البنا المقر إلى القاهرة عام 1932، ومن هناك تمدد التنظيم ككرة ثلج. خلال عقدين فقط، أصبح للإخوان مئات الآلاف من الأتباع، مدارس وعيادات ومساجد، وجهاز سري يتسلح بالسلاح والمال.
ازدواجية البنا تظهر بوضوح في نصوصه. ففي رسالة المؤتمر الخامس، يقول: “وأما الثورة فلا يفكر الإخوان فيها ولا يعتمدون عليها، ولكنهم لا يتخلون عن وسيلة من وسائلها إذا وجدت…”. كلام يبدو مسالما، لكنه يترك الباب مفتوحا للعنف. وفي “رسالة التعاليم”، استشهد بالآية: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل…”، داعيا أعضاءه إلى الجهاد كوسيلة للتمكين. هذه الكلمات كانت كافية لتصبح دستورًا للجهاز الخاص، الذي مارس الاغتيال والحرق والتفجير.
ووصل الأمر إلى التصريح في إحدى رسائله إلى أنه سيتخذ القوة سبيلا حينما لا يجد غيرها.
وما بين اغتيال القاضي أحمد الخازندار في 1948، وقتل رئيس الوزراء النقراشي باشا في العام نفسه، وحوادث تفجير متاجر ودور سينما في قلب القاهرة، لم يعد العنف عند الإخوان وسيلة عارضة، بل أسلوب حياة. وحين حاولوا اغتيال عبد الناصر في المنشية عام 1954، ظهر وجههم العاري أمام المصريين. لم يكن ذلك انحرافا عن خطهم، بل استمرارا له.
ولم يكن الداخلون إلى جماعة الإخوان من صفوة المجتمع أو نخبته المتعلمة، بل من هوامشه الهشّة: الطلاب الفقراء الذين جاءوا من قرى معدمة إلى المدن بحثا عن شهادة تعطيهم مكانة، فوجدوا أنفسهم في مهاجع ضيقة بلا سند، والعمال البسطاء الذين أنهكتهم مصانع الأجانب وشركات القناة، بلا نقابة تحميهم ولا دولة ترعاهم، وصغار الكتبة الذين عاشوا أسرى مكاتب الإدارة الاستعمارية، لا يملكون إلا أقلاما تكتب أوامر غيرهم ولا تصنع قرارا. هذه الفئات، التي عاشت في عجز اجتماعي واقتصادي، كانت الأكثر استعدادا لأن تبحث عن معنى يتجاوز بؤسها اليومي، عن انتماء أكبر من ذاتها الممزقة.
وقد قرأ حسن البنا هذه النفوس بذكاء غريزي؛ لم يحدثهم بلغة الاقتصاد أو السياسة، بل بلغة الدين والكرامة. وعدهم بمكانة في مشروع “إلهي” يجعل حياتهم الصغيرة ذات قيمة، وحوّل هشاشتهم النفسية إلى وقود لطاعة مطلقة. لم يكن لهم نصيب من الجدل الفكري ولا من النقد، فقد لفظهم المجتمع الكبير وتجاهلتهم الدولة، فلم يجدوا إلا أن يذوبوا في حضن “الجماعة” التي منحتهم لأول مرة إحساسا بالهوية والرسالة والانتماء.
هذه الظاهرة لم تكن حكرا على مصر. فكل الحركات المتطرفة في العالم، حين تبدأ، تجد سندها الأول في الطبقات المهمشة: البلاشفة في روسيا جذبتهم صفوف العمال المعدمين الذين لا يملكون سوى أذرعهم، والحركات الفاشية في أوروبا اجتذبت الجنود الصغار العائدين مهزومين من الحرب العالمية الأولى، الغارقين في البطالة والمهانة، فوجدوا في التنظيمات الحديدية تعويضا عن فشلهم. حتى في أمريكا اللاتينية، حيث نشأت حركات حرب العصابات، كان مقاتلوها الأوائل من أبناء الريف الفقير الذين رأوا في البندقية طريقا إلى قيمة لم تمنحها لهم الدولة.
كانت الآلية واحدة في كل هذه التجارب: تحويل الحرمان الاجتماعي إلى قابلية نفسية للطاعة، وتحويل العجز الفردي إلى انصهار في كيان يَعِد بالخلاص. لكن الفارق عند الإخوان أن حسن البنا لم يقدّم لهم أيديولوجيا دنيوية، بل غلّف مشروعه بغلاف ديني، وجعل من الطاعة للمرشد طاعة لله، ومن البيعة للجماعة عهدا مقدسا. وهنا أصبح الانتماء ليس فقط وسيلة للهروب من التهميش، بل أيضا وسيلة للحصول على بركة روحية، ترفعهم من قاع المجتمع إلى صفوف “جنود الله”.
إنها معادلة تستعيدها الجماعة كلما ضعفت، تجذب الفقير والمهمش والمهزوم، وتعيد تشكيله في قوالب الطاعة، ثم تدفعه – باسم الإيمان – إلى معارك لا يعرف أسبابها. وهكذا تحولت جماعة وُلدت في غرف بائسة بين العمال والطلاب، إلى أخطر تنظيم سري في العالم العربي
هذه التركيبة الاجتماعية الهشة التي دخلت الجماعة في بداياتها، فسّرت جانبا مهما من طبيعتها الفكرية والتنظيمية. فالطلاب الفقراء والعمال البسطاء وصغار الكتبة لم يكونوا أهل جدل فكري ولا مناظرة فلسفية، بل كانوا في حاجة إلى قيادة تُفكِّر عنهم وتضع لهم الطريق. من هنا فضّل حسن البنا أن يبني تنظيمه على الطاعة والسمع والانضباط، لا على النقاش والاجتهاد. فالجماعة لم تُخرِج في تاريخها المبكر مفكرين كبارا أو مجددين، بل أخرجت “جندا” يجيدون تنفيذ التعليمات، ويرددون الشعارات أكثر مما ينتجون الأفكار.
ولعل هذا يفسر لماذا غلب على الجماعة الطابع السري العسكري أكثر من الطابع الإصلاحي الفكري. فبدل أن تكون مدرسة للحوار والاجتهاد، صارت معسكرا للتدريب على الطاعة العمياء. لذلك، حين واجهت الجماعة التحديات الكبرى – من صدامها مع الملك فاروق، إلى مواجهتها مع عبد الناصر – لم تملك مرونة فكرية تسمح بمراجعة أو تطوير، بل لجأت فورا إلى العنف باعتباره اللغة الوحيدة التي يفهمها التنظيم.
إن المقارنة هنا تكشف فارقا مهما، ففي الحركات الإصلاحية الحقيقية التي قادها مثقفون كبار، كان الفكر دائما سابقا على التنظيم، أما في جماعة الإخوان فالتنظيم سبق الفكر. لم يكن هناك مشروع فلسفي أو رؤية حضارية، بل كان هناك “تنظيم” يبحث عن مبرراته في نصوص دينية عامة يقتطعها من سياقها. ومن ثمّ ظلّت الجماعة أسيرة بنية الطاعة أكثر من كونها صانعة اجتهاد.
بهذا المعنى يمكن القول إن هشاشة المنبع الاجتماعي للأعضاء الأوائل – بكل ما فيه من فقر وتهميش – لم تكن مجرد خلفية تاريخية، بل كانت جذرا مكوّنا لطبيعة الجماعة حتى اليوم، إذ ظل تنظيما يبحث عن “أتباع” لا عن “مفكرين”، ويُنتج الطاعة أكثر مما يُنتج الوعي. وهذا ما جعل الإخوان، على مدار تاريخهم، قادرين على خلق خلايا صلبة منضبطة، لكن عاجزين عن تقديم مشروع حضاري يليق بزعمهم أنهم “جماعة المسلمين”
أما سيد قطب، فقد كان الوجه الآخر، الوجه الفكري الذي صاغ شرعية القتل. ولد في العام نفسه والشهر نفسه مع البنا (1906)، لكن في صعيد مصر، في قرية موشا بأسيوط. كان ابن بيئة فقيرة، تقليدية، تبحث عن الخلاص. حفظ القرآن صغيرا، ودرس في دار العلوم، وانطلق في بداياته ناقدا أدبيا، كتب عن الشعر والرواية، وحلم بمكانة في الوسط الثقافي، لكنه لم يجد ما يشبع طموحه.
وحين سافر إلى الولايات المتحدة بين 1948 و1950، عاد مكسورا، يكتب في “أمريكا التي رأيتها” عن الفتاة الأمريكية التي تستعرض جسدها، وعن الكنائس التي بلا روح، وعن مجتمع مادي منحل. لم يجد في الغرب أفقا، ولم يجد في مجتمعه المصري اعترافا، فانقلب على العالم كله. وانضم إلى الإخوان في الخمسينيات، وسُجن بعد حادث المنشية، وهناك في السجن تبلورت أفكاره.
وفي كتابه الأشهر “معالم في الطريق”، كتب: “لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء الإسلام… لقد عادت البشرية إلى جاهلية…”. لم يقف عند وصف المجتمعات الغربية بالجاهلية، بل ألحق بها المجتمعات الإسلامية الحديثة، رافضا مؤسساتها ودولها، معتبرا أن الشرعية الوحيدة هي “الحاكمية لله”. دعا إلى هدم المجتمع الجاهلي من أساسه وإعادة بنائه على يد طليعة مؤمنة. لم يعد العنف هنا وسيلة ظرفية كما عند البنا، بل صار واجبا دينيا لا خلاص بدونه.
قطب، الذي كان في بداياته ناقدا أدبيا يبحث عن موقع بين أعلام النهضة، تحول إلى داعية تكفير وثورة، يكتب نصوصا تحولت إلى دستور مقدس للمتطرفين، من الظواهري إلى بن لادن، ومن القاعدة إلى داعش. لم يكن مجرد مفكر، بل كان صاحب جرح نفسي عميق، رجل اغترب عن مجتمعه وعن نفسه، فجعل من الاغتراب نظرية كونية.
البنا وقطب إذن ابنا لحظة مأزومة، احتلال بريطاني خانق، مجتمع فقير مسحوق يبحث عن مخلّص. البنا وجد في التنظيم السرّي سلطة عوضته عن تهميشه الاجتماعي. وقطب وجد في التكفير والثورة تعويضا عن إخفاقه الأدبي. كلاهما استخدم الدين كغطاء للطموح، وكلاهما زرع في قلب مصر بذور العنف التي لا تزال تحصدها حتى اليوم.
وإذا كان أكتوبر قد شهد ميلادهما، فإنه شهد أيضا محطات دم كبرى: محاولة اغتيال عبد الناصر في 1954، اغتيال السادات في 1981، ثم الإعلان عن التنظيم الدولي في 1982. كأن هذا الشهر بات موعدا متكررا لانفجار إرثهما.
لقد تحول الجهاز الخاص الذي أسسه البنا، والفكر التكفيري الذي صاغه قطب، إلى شبكة عالمية. في فلسطين، وُلدت “حماس” من رحم الإخوان. في أفغانستان، وجد المجاهدون في نصوص قطب شرعية للقتال. في أوروبا، أسس التنظيم الدولي شبكات إعلام وتمويل. في مصر، بعد ثورة 2013، خرجت من عباءتهم جماعات مثل “حسم” و”لواء الثورة”، تعيد إنتاج العنف القديم بأسماء جديدة.
واليوم حين ترفع الجماعة شعار “المصالحة”، فهي لا تقدم مراجعة فكرية، بل مناورة سياسية للهروب من تصنيف دولي وشيك. فهي لم تتبرأ من فكر قطب، ولم تتخل عن بيعة السمع والطاعة، ولم تعتذر عن الدماء. وأيمن نور، الذي يشاركهم هذه المسرحية، ليس سوى مثال للتلون والانتهازية، باحثا عن تمويل ومكانة، لا عن مشروع وطني.
إن أكتوبر في الذاكرة المصرية هو شهران في واحد: أكتوبر النصر والحياة، وأكتوبر الموت والخيانة. وإذا كان الأول يذكرنا بجيش عبر القناة وحطم أسطورة العدو، فإن الثاني يذكرنا بجماعة خرجت من ريف البحيرة وصعيد أسيوط لتعلن حربا على الدولة والمجتمع. وما بين النصر والخيانة، يظل على المصريين أن يتذكروا أن خريف الإرهاب لا ينتهي إلا إذا اقتُلعت جذوره، بالفكر كما بالسلاح، بالوعي كما بالدم.