زيارة ذات طابع مختلف في الشكل والمضمون، قام بها وفد إعلامي وصحفي مصري كبير إلى الصين، ضم ممثلين لوسائل إعلام وصحف قومية وخاصة.. رحلة كانت تبدو في بدايتها مجرد مهمة مهنية عابرة، لكنها تحولت إلى تجربة إنسانية وفكرية غنية غيرت كثيراً من النظرة ليس فقط للصين بل لكل ما يربط بين مصر والصين.
وفي إحدى محطات الزيارة، وبينما كان برنامجنا الرسمي خلالها يتوالى بدقة صينية معتادة، أخذتنا الجولة إلى "البحيرة الغربية" بمدينة (هانغتشو) والتي تعد رمزاً للروح الصينية في تزاوج الطبيعة بالشعر والفن بالتاريخ وتعتبر بمثابة قصيدة مائية مفتوحة.
وعلى صفحة مياهها الصافية، رأينا كيف تتفتح أزهار اللوتس في مشهد يفيض بالسكينة والجمال؛ ليعكس فلسفة التوازن بين الإنسان والطبيعة.
ويقول المحرر الدبلوماسي لوكالة أنباء الشرق الأوسط، إن المتأمل بقدر من العلم والبصيرة لزهرة اللوتس الصينية لن يراها مجرد زهرة، بل سيرى ويسمع صدى بعيداً لزهرتنا المصرية القديمة، كأن بين ضفاف النيل والبحيرة الغربية خيطاً من المعنى يربط الحاضر بالماضي، والشرق بالشرق.
وفي الصين، تعد اللوتس رمزاً للطهارة والنور الداخلي، إذ تنبت في وحل البرك الضحلة لكنها ورغم ذلك تبزغ نقية مشرقة فوق الماء.. وفي مصر القديمة، كانت اللوتس الزرقاء رمزاً أسبق للتنوير والبصيرة، فهي التي تفتحت مع شروق الشمس وأطلقت نورها على الكون في أسطورة الخلق الأولى.. رآها المصري القديم عيناً للروح تُبصر بها ما وراء المادي ومفتاحاً لليقظة الفكرية والصفاء الداخلي؛ ولهذا ارتبطت بالرحلة إلى العالم الآخر بوصفها زهرة النور والمعرفة.
ولعل ما يثير التأمل اليوم أن الصين، بعد آلاف السنين، استنبتت اللوتس في بحيرتها الغربية المقدسة، وأعادت إليها قدسيتها كرمز للصفاء والسلام الداخلي، وكأنها استحضرت جوهر الرسالة التي نطقت بها اللوتس المصرية منذ فجر التاريخ في أن "الجمال النقي يولد من الطين وأن البصيرة لا تنبت إلا في قلب التجربة".
ورغم مرور القرون، ما زالت اللوتس المصرية (اللوتس الزرقاء) موجودة حتى اليوم في بعض برك الدلتا وصعيد مصر، خصوصاً في محميات الفيوم وحدائق أسوان النباتية، وإن كانت نادرة بعد أن جرّمها الرومان عمداً في حقبة لاحقة؛ في سعي ممنهج لتقويض عناصر من الهوية الطقسية المصرية ومنع التفاعل مع رحيق اللوتس الذي كان للمصريين مصدراً للبصيرة والوعي الروحي.. لكنها بقيت حية في الوجدان المصري رمزاً لإشراق البصيرة وتجدد الحياة.
ورغم أن اللوتس المصرية كانت زرقاء اللون تشع كزرقة السماء في النور، بينما اللوتس الصينية وردية أو بيضاء تميل إلى صفاء القلب، فإن الرسالة واحدة وهي أن "النقاء والتنوير لا وطن لهما، بل هما ميراث إنساني مشترك".
ويشير المحرر الدبلوماسي للوكالة إلى أن هذه الدلالات الرمزية تأتي في وقت تستعد فيه مصر والصين للاحتفال العام المقبل بالذكرى السبعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ، وهي مناسبة تؤكد أن الصلات بين القاهرة وبكين ليست وليدة المصالح الحديثة وحدها ، بل تمتد إلى جذور رمزية وروحية ضاربة في عمق التاريخ.
ومع تقدم العلم في القرن الحادي والعشرين، اكتشف العلماء أن زهرة اللوتس هي أنقى كائن في الطبيعة، إذ لا يلتصق بها غبار ولا بكتيريا بسبب البنية المجهرية الدقيقة لحبيباتها، وهو ما سُمي لاحقاً بـ "تأثير اللوتس" الذي ألهم ابتكار مواد علمية وأدوات طبية وصناعية لا تتسخ أبداً، من الأقمشة إلى الزجاج والأطراف الصناعية وأدوات الجراحة، حتى أن بعض الفلاسفة والعلماء فى العالم أطلقوا على القرن الحالي وصف " قرن اللوتس " باعتباره عصر السعي إلى النقاء وسط تعقيدات العالم المادي.
ولعل تسمية هذا القرن بـ "قرن اللوتس" تحمل رسالة مشفرة عميقة بأن المستقبل سيكون لمن عرف سر "اللوتس" وحافظ عليه، لمن أدرك أن النقاء والبصيرة هما أعظم ما يمكن أن يقدمه الإنسان لذاته وللعالم.
أما السؤال الذي يظل معلقاً على صفحة التاريخ والماء معاً، فهو "كيف انتقلت فكرة اللوتس من مصر إلى الصين.. بالرؤية نفسها.. وبالمعنى ذاته.. بالعلم ذاته.. وبالقداسة نفسها؟".
وحتى إن ظل جواب هذا السؤال غامضاً، فإن الحقيقة أن ما أطلق عليه العلماء مصطلح " تأثير اللوتس " الذي انتقل بين مصر والصين قبل آلاف السنين لا يزال سارياً في الهواء حتى يومنا هذا جسراً غير مرئي يربط بين الحضارتين.
ومن يتأمل كيف تنفذ قيادتا البلدين خطط التنمية ومشروعات النهضة في كل بقعة من أرض مصر والصين بصبر لا ينال منه اليأس.. صبر يماثل صبر قدماء المصريين والصينيين حتى تبزغ زهور اللوتس.. من يتأمل ذلك سيدرك أن تأثير اللوتس قد انتقل بالفعل وأن القرن الحالى سيكون شاهداً على قيامة العملاق المصري مثلما سيكون شاهداً على قيامة التنين الصيني.. بالبصيرة نراه، قبل أن نراه بالبصر.