السبت 1 نوفمبر 2025

بورتريه الهلال

توت عنخ آمون.. الفرعون الذهبي

  • 28-10-2025 | 15:37

توت عنخ آمون

طباعة
  • همت مصطفى

ملك لم يطل به العمر، لكنه ترك وراءه خلودًا لا يشيخ، وأسرارًا لا تزال تُفتن بها العقول حتى اليوم، هو «الملك الطفل» أو «الفرعون الشاب» الذي أصبح بعد آلاف السنين أشهر ملوك الأرض، إنه الملك «توت عنخ آمون»، الذي حكم مصر في سن مبكرة، وخلّف إرثًا أثريًا هائلًا، حيث كشفت مقبرته المذهلة عن كنوز الحضارة الفرعونية وروعة الطقوس الملكية، لتدهش العالم كله، وأصبح وجهه الذهبي رمزًا خالدًا لعظمة مصر، وحكاية حياته القصيرة ملهمة، تعكس سحر الفراعنة وإبداعهم على مر الزمن.

أحد أبرز ملوك الأسرة الثامنة عشرة في مصر القديمة، رغم قِصر فترة حكمه التي امتدت من عام 1334 قبل الميلاد حتى 1325 قبل الميلاد، و لم يُخلّد التاريخ اسمه بفضل إنجازات سياسية أو حربية، بل بسبب لغز حياته ووفاته واكتشاف مقبرته كاملةً بكنوزها المذهلة التي ظلت مدفونة أكثر من ثلاثة آلاف عام في وادي الملوك بالأقصر مدينة الآثار الأشهر في العالم.

ميلاد ملك.. وبداية حكاية غامضة

وُلد «توت عنخ آمون» حوالي عام 1341 ق.م، في أواخر عصر العمارنة المضطرب، وهي فترة انتقالية في تاريخ مصر القديم،  ذلك الزمن الذي مزّقته الصراعات الدينية بين عبادة الإله «آتون» وعودة مجد آمون رع.

أسرة  توت غنخ آمون

وكشفت تحاليل الحمض النووي«DNA» التي أجراها المجلس الأعلى للآثار المصرية عام 2010 م، أن توت عنخ آمون هو ابن الملك «إخناتون»، وأن والدته هي «السيدة الصغيرة» التي كانت ضمن مومياوات وادي الملوك، مما حسم أحد أقدم الألغاز في علم المصريات.

واعتلى «توت عنخ آمون» العرش، وهو في التاسعة من عمره، بعد وفاة شقيقه «سمنخ كا رع»، وتزوج من «عنخ إسن آمون»، ابنة الملك «إخناتون»، الذي كان أول من حاول توحيد آلهة المصريين في عبادة الإله الواحد «آتون»، وبعد وفاة الوالد «أخناتون»(أمنحتب الرابع)، شهدت البلاد اضطرابات دينية، فقام «توت عنخ آمون» بإعادة عبادة الآلهة القديمة، وحمل على كتفيه الصغيرين عبءَ مملكةٍ عظيمةٍ تحتاج إلى الاستقرار بعد اضطرابٍ طويل، وبإرشاد مستشاريه «آي» و«حورمحب»، أعاد البلاد إلى عبادة «آمون»، وأعاد العاصمة إلى طيبة، ليبدأ عهدًا جديدًا من النهضة الدينية والسياسية، و ليعود الاستقرار الديني والسياسي إلى «طيبة».

الفرعون الطفل الذي أعاد للآلهة صوتها

على الرغم من صغر سن «توت عنخ آمون»، لكنه كان قادرا على ترك بصمة واضحة في تاريخ مصر القديمة، فقد أمر بإصلاح المعابد التي دمرها والده، وأعاد تماثيل الآلهة إلى أماكنها المقدسة، ونقش اسمه في الصروح ليعلن أن مصر عادت لأحضان «رع وآمون»، كانت سنوات حكم «توت» القصيرة – نحو تسع سنوات فقط – كفيلة بأن تُعيد الأمل إلى قلوب المصريين بعد عقدٍ من الفوضى والعزلة.

لغز الوفاة الغامضة  وبداية الخلود 

رحل الملك الشاب «توت عنخ آمون» في ريعان شبابه عن عمر لا يتجاوز التاسعة عشرة، في ظروفٍ غامضةٍ، أثارت الجدل لعقود طويلة، ولا تزال محور نقاش العلماء حتى اليوم، وتعددت النظريات: هل مات مريضًا؟ أم أصيب في حادث؟ أم كانت مؤامرة؟ لكن الحقيقة الوحيدة التي لا شك فيها أن موته كان بداية أسطورته.

 وعُثر على كسور في جمجمة«توت» وفخذه الأيسر، ما أثار فرضية اغتياله على يد وزيره «آي» الذي تزوج من أرملته بعد وفاته ونصّب نفسه فرعونًا وحاكما لطيبة.

 و أجريت وفحوصًا حديثة باستخدام الأشعة المقطعية والمسح الثلاثي الأبعاد،  في عام 2005،  وكشفت أن الفتحة في الجمجمة حدثت بعد الموت أثناء عملية التحنيط، وأن الكسر في الفخذ هو السبب الحقيقي للوفاة نتيجة التسمم بالدم والإصابة بالغرغرينا، وربما الملاريا التي كانت منتشرة في الجَنُوب.

اكتشاف يهزّ العالم.. مع  هوارد كارتر

 وفي الرابع من نوفمبر عام 1922م، كان العالم على موعدٍ مع أعظم اكتشاف أثري في التاريخ، حين أزاح عالم الآثار البريطاني «هوارد كارتر» الرمال عن بابٍ مختومٍ في «وادي الملوك»، لتتوهج أمام عينيه كنوز لم يرَ مثلها بشر منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وعُثر على مقبرة «توت عنخ آمون» شبه سليمة، تضم أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية مذهلة: «عربات مذهبة، عروش مرصعة بالجواهر، تماثيل ذهبية، وأوانٍ من الألباستر، وأقنعة ملكية تسرق الأنفاس، لكن أعظمها جميعًا كان «قناع توت عنخ آمون» الذهبي، التحفة التي أصبحت رمزًا خالدًا لمصر وحضارتها.

لعنة الفراعنة.. أسطورة ولدت من الرمال

 ومنذ لحظة فتح المقبرة، بدأت حكايات الغموض تُحيط بالاكتشاف، وتوفي «اللورد كارنفون»،  ممول الحملة – بعد أسابيعٍ قليلة من فتح المقبرة، وتوالت بعدها وفيات غامضة بين أعضاء البعثة، وتحدث الناس عن «لعنة الفراعنة»، وقالوا إن من يزعج نوم الملك الشاب يُصيبه غضبه، لتزداد الأسطورة بريقًا، وتتحول من حكايةٍ أثرية إلى أسطورةٍ عالمية لا تزال تُروى حتى اليوم.

كنوز الخلود.. مجد من ذهب

 وكل قطعة من «كنوز توت عنخ آمون» تُخبر قصة عن عظمة الفن المصري القديم،  وحضارتنا الخالدة، فمن عرشه الذهبي المزخرف بمشاهد الحنان بينه وبين زوجته «عنخ إسن آمون»، إلى تماثيل الأوشابتي التي ستخدمه في العالم الآخر، وصولًا إلى التابوت المذهّب الذي احتضن مومياءه في طبقاتٍ ثلاث من الذهب الخالص، لقد جعل المصريون القدماء من الموت حياةً أخرى، ومن المقبرة قصرًا أبديا يليق بملكٍ خُلِق ليبقى.

مشهد مهيب لعودة الفرعون على موطنه الأبدي

 ومع الافتتاح الرسمي لافتتاح المتحف المصري الكبير، ستتجه أنظار العالم  في الأول من  نوفمبر لبلادنا، التي تشهد ولادة عهدٍ جديد من العرض المتحفي، والذي يستكمل رحلة الهُوِيَّة  المصرية الفريدة التي  تُروى بكل فخر، والحضارة تُعرض بكل أناقة، والمجد يُعاد بعناية تليق بعظمة الأجداد.

وعلى مرمى حجر من أهرامات الجيزة الخالدة،  والباقية من عجائب الدنيا السبع، يقف المتحف المصري الكبير كتحفة معمارية ناطقة، وفي قلب التحف سيقف الزائر بعد أيام أمام كنوزٍ الملك  الذهبي «توت غنخ آمون»، التي خُلّدت في الوجدان الإنساني منذ فجر الحضارة، ليكون «توت غنخ آمون» ضيفًا مهيبًا  تتلألأ القطع الأثرية التي تنبض بسحر الحضارة المصرية القديمة، تعبر الكنوز الزمن والمكان لتستقر أخيرًا في موطنها الأبدي.. أرض التاريخ والحضارة.

163 قطعة أثرية نادرة 

وفي مراحل  الاستعدادات النهائية لافتتاح المتحف المصري الكبير، وصلت 163 قطعة أثرية نادرة من كنوز الملك «توت عنخ آمون» إلى مقر المتحف، قادمة من المتحف المصري بالتحرير، وذلك ضمن خُطَّة شاملة لعرض المجموعة الكاملة للملك الشاب لأول مرة في مكان واحد.

وتُعد هذه المجموعة من أبرز الكنوز الملكية في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، حيث تم نقلها وفق أعلى المعايير الدولية من حيث التوثيق، والتغليف، والسلامة الأثرية، و أُجريت عمليات فحص دقيقة وتقارير حالة تفصيلية لكل قطعة قبل النقل، لضمان الحفاظ عليها أثناء الرحلة، تمهيدًا لعرضها داخل القاعات المخصصة لها ضمن سيناريو عرض متكامل، وفق خطط  وزارة السياحة والآثار المصرية.

القطع الأثرية لكنز الملك الذهبي

ومن القطع التي تم نقلها: كرسي الاحتفالات الشهير الذي عُثر عليه في الممر المؤدي إلى المقبرة، والمقصورة الخشبية المذهبة الخاصة بالأواني الكانوبية، إلى جانب مجموعة مذهلة من الحلي والمجوهرات المصنوعة من الذهب والعقيق،  وقناع الملك «توت عنخ آمون» أشهر قطعة أثرية في العالم.

 كرسي الاحتفالات.. يمثل تحفة فنية نادرة من عصر الدولة الحديثة، يتميز بتطعيمه بالعاج والأبنوس والفيانس والذهب، ويظهر في منتصفه قرص الشمس تعلوه الإلهة «نخبت» وهي تبسط جناحيها، بينما يزدان مسند القدمين بزخارف دقيقة ورقائق ذهبية تُجسد أعداء مصر التسعة.

 المقصورة الخشبية المذهبة الخاصة بالأواني الكانوبية، إلى جانب مجموعة رائعة من الحُلي والمجوهرات المصنوعة من الذهب والعقيق، التي تعكس ذوقًا ملكيًا راقيًا وعمقًا رمزيًا متجذرًا في العقيدة المصرية القديمة.

قناع «توت عنخ  آمون » جوهر الروح المصرية..  وهناك، في قلب القاعة المخصصة للملك الذهبي،«توت غنخ آمون» يسطع قناع «توت عنخ آمون» كأبهى ما أبدعته يد الإنسان في التاريخ القديم؛ تحفةٌ تتجاوز قيمتها المادية لتُجسّد جوهر الروح المصرية التي انتصرت على الزمن، يقف القناع الذهبي شامخًا في موطنه الأبدي،  بعد أن تحوّل إلى رمزٍ للعظمة والخلود، يُلهم الأجيال ويُعيد إلى العالم دهشة اللقاء الأول مع أسرار الحضارة المصرية.

قناع الملك توت عنخ آمون.. درة المتحف الكبير

ويُعدّ قناع الفرعون الذهبي توت عنخ آمون أيقونة الحضارة المصرية القديمة وأشهر قطعة أثرية على الإطلاق بين مقتنيات الملك الشاب، ومنذ اكتشافه المذهل داخل مقبرة الملك في 4 نوفمبر 1922م، أصبح القناع أحد أبرز الكنوز التي أسرت العالم بجمالها الفريد وقيمتها التاريخية.

انتقال رمزي لحكاية شاب فرعوني

 ويُعد هذا النقل  لكنوز الملك«توت عنخ آمون» خطوة محورية نحو اكتمال عرض كنوز الملك، بما يليق بمكانته التاريخية، وبما يعزز من مكانة المتحف المصري الكبير كأكبر صرح حضاري مخصص لعرض آثار الحضارة المصرية القديمة، وهذه الخطوة  تمثل  انتقال رمزي لحكاية شاب فرعوني خلدته الأسطورة، إلى قلب أكبر متحف أثري في العالم، حيث تلتقي الحضارة بالمستقبل، ويُكتب المجد من جديد، وكل هذه الكنوز محفوظة اليوم في المتحف المصري الكبير، وتُعد نافذة فريدة على حياة المصريين القدماء في أوج مجدهم الحضاري.

الإرث الخالد

لم يكن «توت عنخ آمون» أعظم ملوك مصر في الحكم،  فحسب لكنه سيبقى أعظمهم في الحضور، فقد منح البشرية نافذة نادرة تطلّ على حياة المصريين القدماء، من طقوسهم إلى حرفهم وفنونهم، وأعاد لمصر مجدها في القرن العشرين حين أبهر العالم كله بمقبرته وكنوزه.
واليوم، تستقبل مومياؤه الزوار في المتحف القومي للحضارة المصرية، بينما تُعرض كنوزه في المتحف المصري الكبير، شاهدةً على خلود حضارةٍ لا تعرف الفناء.

حين يتجدد السحر

 وكلما نظرنا إلى وجه الملك الذهبي الهادئ «توت عنخ آمون»، نرى في عينيه الخلود بعينه، كأنه ما زال يبتسم للعالم من وراء آلاف السنين، إنه ليس  ملكٍ دُفن في وادي الملوك فحسب، لكن رمزٌ خالدٌ للغموض والجمال والعظمة، فهو الملك الذي مات صغيرًا ليحيا إلى الأبد، وتبقى مصر – بفضله وبفضل أجداده – بلد السحر والحضارة والدهشة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة