طرحت مصر مع مطلع القرن الحادي والعشرين مسابقة عالمية لتصميم متحف أيقوني جديد للآثار المصرية القديمة، ولاقى هذا الطرح اهتمامًا عالميًا غير مسبوق، إذ تم تقديم 1577 تصميمًا لمشروع المتحف من مكاتب هندسية في 83 دولة، بما فيها مصر. وبذلك أصبح هذا المتحف محط اهتمام وأنظار العالم قبل أن يتم الانتهاء من تشييده وإعداد العرض المتحفي به وافتتاحه بالكامل بنحو ربع قرن. وتابع العالم على مدى هذه الفترة الزمنية كافة مراحل هذا المشروع، وسعت شركات عالمية كثيرة للفوز بتنفيذ أجزاء من هذا المشروع، بدءًا بطرح عالمي لشركة عالمية تدير هذا المشروع التخصصي الضخم، مرورًا بشريك أجنبي لشركة المقاولات المصرية التي فازت بتنفيذ الإنشاءات، والاستعانة بخبراء عالميين في العرض المتحفي، وصولًا إلى الطرح العالمي لتصميم قاعات عرض كنوز الملك توت عنخ آمون، وتنفيذ فتارين العرض الخاصة بآثاره، حيث أن معظمها صُنعت من مواد عضوية كالأخشاب والجلود والمنسوجات، وبالتالي تحتاج إلى فتارين عرض تقدم لها بيئة مناسبة للحفاظ عليها للأجيال القادمة.
ولكن مع هذا الاهتمام العالمي، لا بد من التأكيد على أن هذا المشروع الرائع لحفظ أجزاء هامة من التراث المصري القديم، الذي يعد جزءًا هامًا ومبهرًا من تراث الإنسانية بأجمعها، هو مشروع مصري خالص بتمويل مصري وإدارة وطنية لكل مراحل المشروع. فقد أشرفت على اختيار تصميم المتحف لجنة ضمت قامات مصرية رفيعة، وتابعت وزارة الآثار المصرية أعمال البناء والتشييد، وانضمت إليها عام 2015 كوادر من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة المصرية كان لها دور بارز في تقديم حلول هندسية وإنشائية لترشيد الإنفاق وتقليل التكلفة.
وكان من التحديات الكبيرة التي واجهت مشروع المتحف المصري الكبير أثناء الفترة التي شرفت فيها بالإشراف العام على هذا المشروع القومي من عام 2014 إلى عام 2019، ضرورة تأمين التمويل لاستكمال المشروع بعد زيادة تكلفته نتيجة الارتفاع العالمي الذي شهدته أسعار مواد التشييد والبناء في أعقاب ثورات الربيع العربي، وما تلاها من تحديات سياسية واقتصادية. كانت التكلفة قد تضاعفت عن المتوقع لها عند بداية المشروع، وكانت دولة اليابان قد قدمت لمصر قرضًا بقيمة حوالي ثلاثمائة مليون دولار لتمويل المشروع، ولكن مع هذه الزيادة الكبيرة في التكلفة، كان لا بد من الدخول في مفاوضات طويلة مع الجانب الياباني للحصول على قرض ثانٍ لتأمين تمويل المشروع حتى الانتهاء منه.
وقد شرفت، بالتعاون مع مستشارين من وزارات الآثار والمالية والتعاون الدولي والخارجية، بالمشاركة في إعداد ملف قوي يعزز طلب مصر لقرض ثانٍ بقيمة خمسمائة مليون دولار. وبعد مباحثات ومفاوضات مضنية استمرت قرابة العام، نجحت مصر في الحصول على قرض ثانٍ بقيمة أربعمائة وخمسين مليون دولار بشروط ميسّرة في السداد وفوائد زهيدة على أصل المبلغ. ورغم صعوبة المفاوضات، فقد ساهم شغف الشعب الياباني بالحضارة المصرية القديمة وانبهاره بآثار الملك توت عنخ آمون في إبرام اتفاقية هذا القرض.
وبالتزامن مع تأمين التمويل، كانت أعمال اختيار وتغليف ونقل الآثار التي ستُعرض في المتحف مستمرة على قدم وساق، حيث تم خلال فترة ولايتي للمشروع نقل ما يزيد عن ثلاثين ألف قطعة أثرية بأمان وسلام إلى مركز ترميم وصيانة الآثار الملحق بالمتحف المصري الكبير، منها حوالي خمسة آلاف وستمائة قطعة من آثار الملك توت عنخ آمون. كما تم عمل الترميم والصيانة لهذه القطع، وكل ذلك بسواعد وكفاءات مصرية خالصة، هم من ضمن الآلاف من الجنود المجهولين من علماء آثار ومهندسين ومرممين وفنيين وعمال شاركوا بإخلاص في هذا العمل العظيم.
وكان من ضمن التكليفات التي كُلِّفت بها عندما توليت المشروع، إحداث حالة من التشويق العالمي ليكون العالم كله في انتظار افتتاح هذا المتحف. وعلى ذلك، تم بالتنسيق مع الجهات الأمنية السماح للإعلام المحلي والعالمي بتصوير بعض أعمال نقل وترميم وصيانة الآثار، وكان لذلك عظيم الأثر في متابعة العالم بشغف لما يقوم به المصريون من جهود احترافية لنقل وصيانة آثارهم التي لا تُقدَّر بثمن، تمهيدًا لعرضها في مبنى مبهر من حيث التصميم المعماري والحجم والمساحة. وكان يتم تصوير مراحل البناء ونقلها عبر القنوات العالمية، بحيث ظل تطور هذا المتحف محط الأنظار خلال السنوات العشر الأخيرة على وجه الخصوص.
وقد أثارت هذه التغطية الإعلامية العالمية الموفقة فضول كبار المسؤولين في العالم، فحرص الكثير منهم على طلب زيارة المشروع وهو لا يزال في طور الإنشاء. وكان من أبرز الزيارات زيارة رئيس وزراء اليابان شينزو آبي لموقع المتحف في 17 يناير 2015، وفخامة رئيس البرتغال مارسيلو دي سوزا في 11 أبريل 2018، وسعادة نائب رئيس الصين وانغ تشي شان في 26 أكتوبر 2018.
وعلى الصعيد المحلي، أولت القيادة السياسية اهتمامًا كبيرًا لمتابعة المشروع، حيث قام فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي بتفقد تطور الأعمال بالمشروع أكثر من مرة، كان أولها في عام 2018، مما أعطى دفعة معنوية كبيرة لكل العاملين بالمشروع لسرعة إنجازه. وقد شرفت باستقبال دولة رؤساء الوزراء إبراهيم محلب، وشريف إسماعيل، ومصطفى مدبولي على التوالي عند زياراتهم التفقدية للمشروع، بل إن اجتماعًا لمجلس الوزراء تم بموقع المشروع في أبريل عام 2015. كل ذلك ساهم أيضًا في إيقاظ حماس المصريين تجاه هذا المشروع، وانتظارهم بشغف لرؤية آثارنا الرائعة في عرض متحفي حديث مبهر يستقبلون فيه ضيوف مصر من السائحين الأجانب.
وكان نقل المقاصير الخشبية المذهبة، التي كانت تحيط في الأصل بالتابوت الحجري للملك توت عنخ آمون في حجرة دفنه بمقبرته بوادي الملوك بالأقصر، من التحديات الكبرى التي أثارت اهتمام العالم. فبعد اكتشاف المقبرة في عام 1922، تم تفكيك هذه المقاصير وترميمها ونقلها إلى المتحف المصري بميدان التحرير، حيث ظلت معروضة هناك لما يقرب من مائة عام. وكان هناك تخوّف من المتخصصين حول العالم من حدوث أضرار كبيرة أثناء نقل هذه المقاصير. وكان رأي الخبراء الأجانب الذين دعتهم مصر للاستماع إلى آرائهم، أن الإعداد لنقلها سيتطلب أموالًا طائلة وسنوات عديدة.
ولكن، بصفتي رئيسًا للجنة نقل المقاصير إلى المتحف المصري الكبير في ذلك التوقيت، أبلغت وزارة الآثار بثقتي الكاملة في علماء مصر في مجال الترميم من كوادر كلية الآثار – جامعة القاهرة، وأن فريقًا مصريًا خالصًا قادر تمامًا على إعداد الدراسات الدقيقة اللازمة لتحديد كيفية نقل المقاصير بأمان. وقد كانت ثقتي في محلها، إذ قامت اللجنة المصرية بعمل دراسات دقيقة باستخدام أحدث التقنيات في وقت قياسي، تُوِّج في نهاية الأمر بالفك والتغليف والنقل وإعادة التركيب بمهارة وأمان ونجاح، وسط إعجاب وتقدير المتخصصين من كل أنحاء العالم.
كما حرصت أيضًا على عقد خمسة مؤتمرات عالمية عن آثار الملك توت عنخ آمون بموقع المتحف وهو لا يزال في طور الإنشاء، للاستفادة من الأبحاث العلمية الحديثة لعلماء الآثار المصرية القديمة حول توت عنخ آمون لتدخل ضمن العرض المتحفي الحديث لكنوز الملك توت عنخ آمون. وكذلك تمت دعوة مديري كبرى المتاحف التي تعرض الآثار المصرية في كل أنحاء العالم، لإطلاعهم على بعض أفكار وأساليب العرض المقترحة للاستفادة من خبراتهم، بحيث يصبح المتحف المصري الكبير بحق هو متحف القرن الحادي والعشرين، الذي يفد إليه الزائرون من كل أنحاء العالم، ليروا أخيرًا ما طال اشتياقهم إليه من روائع ما خلفته الحضارة المصرية القديمة، معروضًا بأساليب جذابة حديثة في صرح مهيب شيدته مصر الحاضر بسواعد مصرية مخلصة.