الثلاثاء 4 نوفمبر 2025

بورتريه الهلال

سليم حسن.. مكتشف 200 مقبرة أثرية

  • 3-11-2025 | 15:52

سليم حسن عميد الأثريين

طباعة
  • همت مصطفى

من قرية صغيرة في «دلتا النيل»، خرج رجل ليصبح أحد أعظم من فكّ شفرات الحضارة المصرية القديمة، رجل لم تُثنه يُتم الطفولة عن تسلق سلالم المجد، ولم تمنعه قيود الاستعمار من انتزاع حقه في حراسة تراث أجداده، إنه ذلك العالِم الذي حفر في رمال الجيزة فاستخرج مائتي مقبرة، وحفر في وجدان التاريخ فاستخرج ثمانية عشر مجلدًا خالدًا تُعرف بـ«موسوعة مصر القديمة» تلك الأيقونة المعرفية التي لا تزال مرجعًا أساسيًا لكل باحث في علم المصريات إنه سليم حسن «عميد الأثريين المصريين»

وفي زمن كانت فيه وظائف الآثار حكرًا على الأجانب، وكان المصريون غرباء عن كنوز بلادهم، جاء سليم حسن ليكسر هذا الاحتكار بعلمه وإصراره،  تتلمذ على يد العلماء الأوروبيين في السوربون وفيينا واللوفر، لكنه عاد ليُعلّم العالم أجمع عن حضارة أجداده

واكتشف مقبرة «رع ور» الضخمة، ومراكب الشمس لخوفو وخفرع، لكن أعظم اكتشافاته كان إثبات أن المصري قادر على أن يكون سيد آثاره لا خادمًا عندها.

ودفع  «عميد الأثريين المصريين» ثمن كرامته غاليًا حين رفض أن يُعيد للملك فاروق قطعًا أثرية تخص المتحف المصري، فتُرك منصبه كأول وكيل مصري لمصلحة الآثار، لكن التاريخ كان له بالمرصاد،  فعاد ليقود البَعثة التي أنقذت آثار النوبة من الغرق تحت مياه السد العالي. سليم حسن لم يكن مجرد عالِم آثار، بل كان ثائرًا بالمعرفة، وحارسًا للهوية، ورمزًا لكل مصري آمن بأن العلم هو السلاح الأقوى في معركة الكرامة الوطنية.

 الميلاد والنشأة 

وُلد سليم حسن عام 1893م بقريةِ «ميت ناجي» التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية بمصر، و تُوفِّي والده وهو صغير فقامت أمُّه برعايته وأصرَّت على أن يُكمِل تعليمَه.

بعد أن أنهى سليم حسن مرحلة التعليم الابتدائية والثانوية وحصل على شهادة البكالوريا عام1909م التحق بمدرسة المعلمين العليا، وكان أحد تلامذة أحمد كمال باشا،  ثم اختير لإكمال دراسته بقسم الآثار الملحَق بهذه المدرسة لتفوُّقه في عِلم التاريخ، وتخرَّج فيها عام 1913م.

بداية الحياة العلمية

حاول   الأثري المتفرد سليم حسن الالتحاق بالمتحف المصري ليكون أمينا مساعدًا بالمتحف ولكن مساعيه باءت بالفشل حيث كانت وظائف المتحف المصري حكرا على الأجانب فقط، فعمل سليم حسن مدرسًا للتاريخ بالمدارس الأميرية، في عام 1921م  عُيِّن في المتحف المصري بالتحرير بعد ضغط من الحكومة المصرية ممثلة في أحمد شفيق باشا وزير الأشغال، وتتلمذ سليم حسن في المتحف المصري على يد العالم الروسي  «جولنسيف».

سفر سليم حسن إلى أوروبا

في عام 1922م، سافر سليم حسن إلى أوروبا برفقة أحمد كمال باشا لحضور احتفالات الذكرى المئوية لعالم الآثار الفرنسي «شامبليون»، وزار فرنسا 1925 في بعثته، وزار إنجلترا وألمانيا وخلال تلك الفترة كتب العديد من المقالات الصحفية تحت عنوان «الآثار المصرية في المتاحف الأوروبية» كشف فيها عن السرقة والنهب الذي يحدث للآثار المصرية مثل رأس  الملكة «نفرتيتي» التي شاهدها في برلين. 

الدكتوراه في عِلم الآثار من جامعة فيينا

وفي بَعثة حسن سليم لفرنسا التحق بجامعة «السوربون» التي حصل منها على دبلومتين في اللغة والديانة المصريتين القديمتين، وحصَل على دبلوم اللغات الشرقية واللغة المصرية القديمة«الهيروغليفية» من الكُلِّيَّة الكاثوليكية، ودبلوم الآثار من كُلِّيَّة اللوفر، وحصل بعد ذلك  على درجة الدكتوراه في عِلم الآثار من جامعة فيينا.

رحلة سليم حسن مع تنقيب الآثار 

 وبدأ سليم حسن عام 1919م  أعمالَ التنقيب الأثرية في منطقة الهرم لحساب جامعة القاهرة، وكان من أهم الاكتشافات التي نتجت عن هذه الأعمال مقبرة «رع ور» وهي مقبرة كبيرة وضخمة وُجد بها العديد من الآثار.

واستمر سليم حسن في أعمال التنقيب في منطقة أهرامات الجيزة وسقارة حتى عام 1939م اكتشف خلال تلك الفترة حوالي مائتي مقبرة أهمها مقبة الملكة «خنت كاوس» من الأسرة الخامسة ومقابر أولاد الملك «خفرع»، بالإضافة إلى مئات القطع الأثرية والتماثيل ومراكب الشمس الحجرية للملكين خوفو وخفرع،  لتصل اكتشافات حسن سليم  خلال تلك الفترة حوالَي مائتَي مقبرة.

سليم حسن.. أول مصري وكيلًا عامًّا لمصلحة الآثار المصرية

عُيِّن سليم حسن وكيلًا عامًّا لمصلحة الآثار المصرية، ليكون أول مصري يتولى هذا المنصب، ويكون المسئول الأول عن كل آثار البلاد، و أعاد إلى المتحف المصري مجموعةً من القطع الأثرية كان يمتلكها الملك فؤاد، وحاول الملك فاروق استعادة تلك القطع، ولكن سليم حسن رفض ذلك؛ ممَّا عرَّضه لمضايقات شديدة أدَّت إلى تركه منصبه عام 1940 م.

واستعانت الحكومة المصرية في عام 1954م بخبرة سليم حسن الكبيرة فعيَّنته رئيسًا للبعثة التي ستُحدِّد مدى تأثير بناء السد العالي على آثار النوبة، وانتُخِب  «حسن» في عام 1960م عضوًا بالإجماع في أكاديمية نيويورك التي تضم أكثر من 1500 عالِم من 75 دولة. 

مؤلفات سليم حسن..  بالعربية

موسوعة مصر القديمة (الثامنة عشر جزئًا).
جغرافية مصر القديمة، «الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة»

كما ساهم بالعديد من المؤلفات الأخرى باللغتين الإنجليزية والفرنسية.

رحيل وأثر باق ..المنقّب عن الهُوِيَّة في زمن الاستعمار

توفي سليم حسن.. «عميد الأثريين»  في 30 سبتمبر عام 1961م، الموافق 29 من ربيع الآخر 1381 هـ  و في الخامسة والسبعين من عمره 

رحل عنا سليم حسن لكنه ترك وراءه إرثًا لا يُمحى..  ثمانية عشر مجلدًا تروي حكاية حضارة عمرها سبعة آلاف عام، ومئات الاكتشافات التي أعادت كتابة فصول من التاريخ الفرعوني، وأهم من ذلك كله، درسًا في الكرامة الوطنية لن تنساه الأجيال.

ولم يكن سليم حسن مجرد عالِم ينقّب عن الحجارة،  لكنه  كان مناضلًا ينقّب عن الهُوِيَّة في زمن الاستعمار، وعن الكرامة في زمن الخضوع، وعن الحقيقة في زمن التزييف كان يؤمن بأن الشعوب التي لا تعرف تاريخها محكوم عليها بالضياع، وأن العلم ليس رفاهية بل سلاح المستقبل.

واليوم، حين نقف أمام موسوعته الخالدة، أو نتأمل الكنوز التي انتشلها من رمال النسيان، مع افتتاح  المتحف المصري الكبير هذا الحدث العظيم،  ندرك أن «عميد الأثريين المصريين» لم يكن يبحث عن الماضي فقط، لكنه كان يؤسس للمستقبل، و كان يقول للأجيال القادمة: «أنتم أحفاد القدماء المصريين أصحاب الحضارة العريقة، فلا تقبلوا أن تكونوا غرباء في أرضكم، ولا أن يُسرق تراثكم أمام أعينكم.

رحل سليم حسن، لكن اسمه منقوش على جدران التاريخ، كما نقش أجداده أسماءهم على جدران المعابد، ليبقى شاهدًا على أن المصري إذا تسلّح بالعلم والإرادة، فلا قيد يوقفه.

 

أخبار الساعة