التحقت بمدرستي الابتدائية عام 1954، في تلك اللحظة التي كان الزعيم الخالد جمال عبد الناصر يعلن تحويل عبارة طه حسين الشهيرة “التعليم كالماء والهواء” إلى سياسة فعلية وقرارات سياسية سمحت لبنات الطبقة الوسطى من أمثالي بالالتحاق بالتعليم المجاني الذي تمتع بأعلى درجات الجدية في نقل المعرفة الحقيقية والثقافة الرفيعة للتلاميذ من الجنسين. فكانت القراءة هي تلك المتعة الرفيعة التي سبقت ظهور التليفزيون، وكان التوحد بالضمير الجمعي للوطن يمثل أهم دوافع السلوك الفردي منذ الطفولة، خاصة وأنني امتلأت بالفخر بإعلان الزعيم الخالد قرار تأميم قناة السويس عام 1956، وقد أدركت – رغم صغر سني – أنني أنتمي إلى وطنٍ يعلو ويزدهر رغم كل التحديات، فأدركت منذ الطفولة أن عليّ واجبًا تجاه هذا الوطن الذي يفتح أمامي أبواب الصعود الاجتماعي والثقافي، وينتظر مني – في المقابل – كل الإخلاص في تقديم كل ما يمكنني لرفعة الأمة.
فأتقنت القراءة والكتابة في سن السابعة، وعندما بلغت العاشرة كان إعلان الوحدة العربية بين مصر وسوريا عام 1958 دافعًا لأن أتوجه إلى معلمة الموسيقى لأطالبها بتغيير كلمة "أنا مصري" إلى كلمة "أنا عربي"، وذلك عندما كنا نغني:
"نشيد اسلمي يا مصر إنني الفدا، ذي يدي إن مدت الدنيا يدا".
والجميل أن معلمتي قد استجابت لطلبي، لتجعل المدرسة كلها تغني النشيد الوطني بعد تنفيذ اقتراحي، مما بعث في نفسي شعورًا بالثقة في أن الكبار لا يتمسكون بالسلطة الفكرية والثقافية على الصغار، وأنهم يتجهون إلى تشجيعهم ودفعهم إلى التفوق، فالجائزة في انتظارهم.
وكان تفوقي الدراسي أمرًا تراه عائلتي طبيعيًا ولا يستحق أية مكافأة عائلية، وقد ألحقتني مدرسة العباسية الثانوية بفصل المتفوقات القادمات من مواقع الصدارة بمدارسهن الإعدادية، وكنت قد وقعت في هوى التاريخ المصري والجغرافيا والأدب العربي واللغات العربية والإنجليزية، فاتجهت إلى القسم الأدبي، وجاء ترتيبي الأول عند حصولي على الثانوية العامة في مدرستي الثانوية، وأسرعت بالالتحاق بقسم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة القاهرة رغم بُعد بيتنا عنها، لأنني حلمت بالجامعة التي تخرج منها عميد الأدب العربي طه حسين والدكتورة سهير القلماوي، والتي تدرّس بها أول وزيرة مصرية هي العظيمة حكمت أبو زيد، التي كانت أول من تحتل هذا المنصب من النساء، ليس في مصر فقط، وإنما في آسيا وأفريقيا والعالم العربي.
وكانت أعلى لحظات التوحد بالوطن هي إعلان الزعيم الخالد عزمه على التنحي عن منصبه في أعقاب ضربة الغدر الصهيونية في عام 1967، فوجدتني أرتدي ملابس التربية العسكرية الكاكية اللون مع صديقاتي، لننطلق إلى منشية البكري حيث يسكن الرئيس، ونحن نهتف مع الجماهير رافضين قراره بالتنحي عن القيادة.
ومع بداية العام الدراسي الجديد في أكتوبر 1967، توجهت مع زميلاتي الطالبات إلى فريق الضباط المنوط بهم حراسة منطقة كلية الزراعة الملاصقة لجامعة القاهرة، لنطلب منهم تدريبنا على استخدام السلاح وصنع قنابل المولوتوف لحماية المواقع المدنية، حتى نتمكن من المساهمة الجادة في دعم رجال الجيش الذين يدافعون عن الحدود في حرب الاستنزاف التي استغرقت فترة ست سنوات حتى عام 1973. وقد استجاب لنا السادة الضباط، وهم يظنون أنه يكفينا أن نتدرب على أعمال التمريض وإعطاء الحقن... إلخ، لكنهم لاحظوا إصرارنا على التدريب على السلاح، فقبلوا تدريبنا على استخدام مدفع الكلاشنكوف الرشاش وصنع قنابل المولوتوف. وقد لاحظ الضابط المدرِّب أنني حصلت على امتياز في ضرب النار رغم ارتدائي نظارة نظر سميكة العدسات، فابتسم وهو يقول لي: "لابد من إرسالك إلى الجبهة لتميزك في ضرب المدفع"، فقلت له:
"عليك أن تدربني سيدي على التصويب على الأهداف المتحركة أولًا، لأني لم أتدرب إلا على الأهداف الثابتة"، فهتف سعيدًا بردي عليه: "مين زي بنات مصر الشجاعة؟"، ثم منحني شهادة موثقة بحصولي على درجة الامتياز في ضرب النار.
وبعد عامين فقط فوجئت بأن الدكتورة حكمت أبو زيد ستقوم بتدريس مادة علم الاجتماع الريفي والحضري لنا، ولحظتها عرفت طريقي في رحاب الرائدة الوطنية التي ستقود طريقي إلى المستقبل، خاصة وأنها بادلتني أرقى مشاعر الود التي لا تصدر إلا من الأم، وذلك فضلًا عن الأستاذية في أهم تخصص في علم الاجتماع الذي يخدم جماهير الفقراء والأميين.
وقد منحتني شرفًا كبيرًا عندما استضافتني في برنامج تليفزيوني شهير كانت تقدمه الإعلامية الشهيرة "سلوى حجازي"، وكان بعنوان "شريط تسجيل"، حيث يسمح البرنامج للدكتورة حكمت باستضافة من تريد من رجال النخبة السياسية والأكاديمية، وكان تفسيرها لمن سألوها: لماذا تستضيفين طالبة صغيرة مثلي؟ فردت بثقة: "لأني أراها باحثة متفوقة وأريد أن أمنحها الثقة التي تدفعها إلى المزيد من التفوق، لكن عليها أن تهب نفسها للمهمة العلمية والوطنية، فهي ابنتي التي لم أنجبها".
وفي تلك السنة قامت بمناقشة رسالة طالبٍ مجند كانت دراسته في الماجستير في فرع جديد من العلوم الاجتماعية هو علم "الاجتماع العسكري"، فشعرت بالغيرة الأكاديمية، وقلت لنفسي ولأستاذتي: هل يمكنني أن أدرس هذا العلم أم أنه قاصر على الرجال المجندين بالجيش كما لاحظت؟ فنصحتني بأن أبدأ بدراسة أوضاع المرأة المصرية، وقامت سيادتها بالإشراف على بحثي الهام الذي كان بعنوان "الحراك المهني للمرأة المصرية"، ولكني لم أتخلَّ عن حلمي في التخصص في علم الاجتماع العسكري كأحد فروع علم الاجتماع السياسي.
وكانت صناعة القرار السياسي هي الموضوع الذي أردت التعرف من خلال دراستي في رسالة الدكتوراه على تفاصيله الدقيقة، وقد أشرف عليها الأستاذ الدكتور محمد الجوهري، عميد كلية آداب القاهرة آنذاك. وكانت رحلة البحث في الوثائق التاريخية التي تكشف تطور عمليات صنع القرارات السياسية منذ عهد الخديوي إسماعيل وحتى الثمانينيات من القرن العشرين.
وقد أتاحت لي الدراسات الأكاديمية المذكورة فرصة التعرف بعمق على حقائق اجتماعية وسياسية ساعدتني في تقديم المشورة الناجحة لبعض الجهات المعنية بتنفيذ بعض الاتفاقيات الدولية التي قامت بين مصر وبعض الدول الغنية، التي حرصت على المشاركة في حل بعض المشكلات الاجتماعية التي تعيق حركة التنمية الاجتماعية في مصر.
فكانت مشاركتي في تنفيذ الاتفاقية التي قامت بين مصر وألمانيا لمحو أمية عمال الصناعة عام 1990، وتبعتها مشاركتي كمستشار للتنمية الاجتماعية في تنفيذ الاتفاقية التي قامت بين مصر والمملكة المتحدة لمحو الأمية في محافظات الصعيد بكل من قنا وأسوان وسوهاج وأسيوط والمنيا عام 2000.
وفور فوزي في مسابقة أقامتها هيئة فولبرايت الأمريكية في فرعها المصري، وكان هدفها اختيار مبعوث مصري لجامعة ألفريد بولاية نيويورك الأمريكية، ويكون الهدف من بعثته أن يقوم بتحسين صورة الإسلام عند غير المسلمين في الولايات المتحدة، وذلك لإزالة التشوه الذي لحق بالفكرة القائمة عن الإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر التي استهدفت رسم صورة سيئة للدين الإسلامي والمؤمنين به.
وقد قمت بالتدريس في جامعة ألفريد لمدة عام كأول أستاذٍ زائر من مصر في تلك الجامعة العريقة التي يرجع تاريخ إنشائها إلى القرن التاسع عشر. وقد حصلت على جائزة فولبرايت في نهاية عام 2006 لنجاحي في القيام بمهمتي العلمية والوطنية والثقافية.
وفي عام 2008 قمت بإنجاز دراسة مهمة حول مشكلة ارتفاع إحصائيات الطلاق في مصر، وقد دُعيت لمناقشة تلك المشكلة في كل من بيروت بلبنان وعمان بالأردن في مؤتمرات دولية موسعة.
وفي هذه الأثناء قمت بإعداد دراستي الهامة في علم الاجتماع العسكري، والتي كنت قد قمت من خلالها بدراسة وثائقية عن تاريخ الجيش المصري مقارنًا بتاريخ جيوش الدول الأخرى بعد أن اطلعت على موسوعة علم الاجتماع العسكري الأمريكي، وقد قمت بالتدريس في الندوات الثقافية التي تقيمها الشئون المعنوية.
ومن دواعي الفخر أن الرئيس عبدالفتاح السيسي، عندما كان يشغل منصب وزير الدفاع في عام 2012، قد اتخذ قراره الشجاع بتعديل القوانين التي كانت تمنع المرأة من التدريس بالكلية الحربية سابقًا، وذلك بعد أن أجمعت قيادات المدفعية والدفاع الجوي والجيشين الثاني والثالث الميدانيين وقيادات معسكرات تدريب المجندين والقوات الجوية على أنني كنت من أهم وأنجح من يحاضر في تلك القوات.
وقد سجل أرشيف الكلية الحربية اللحظة التي دخلت فيها من بوابة الكلية الحربية إلى المدرج في فيلمٍ تسجيلي يوثق لأول امرأة تقوم بهذه المهمة الوطنية الرفيعة.
وقد منحني سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي شرفًا عظيمًا باختياري ضمن أعضاء أول مجلس أعلى للإعلام يتم تعيينه بقيادة الأستاذ مكرم محمد أحمد منذ عام 2017. كما شرفني سيادته باختياري عضوًا بالمجلس القومي لمكافحة الإرهاب والتطرف برئاسته في العام نفسه.
ولقد شرفني قادة أكاديمية ناصر العسكرية بتكليفي بالتدريس في كلية الدفاع الوطني وكلية أركان الحرب. وخلال تلك الفترة كنت أمارس نشاطي الثقافي الأكاديمي بالتوازي مع الأنشطة السياسية، فقمت بترجمة كتاب "الذاكرة الاجتماعية" للمؤرخ الأمريكي جيمس فينتريس والأنثروبولوجي كريس ويكام لحساب المركز القومي للترجمة، وقد نلت تكريم المركز القومي لترجمتي لهذا الموضوع الهام في العلوم الاجتماعية والسياسية والتاريخ.
وفي الوقت الحالي أتشرف بعضويتي بالمجلس الأعلى للثقافة بلجنة مكافحة التطرف، وذلك فضلًا عن دوري الأكاديمي الممتد في تدريس مواد علم الاجتماع بالجامعة، ومنها علم الاجتماع السياسي، وعلم الاجتماع القانوني، وعلم الاجتماع الديني، وعلم الاجتماع التربوي، وعلم اجتماع المرأة، فضلًا عن علم اجتماع الأدب.
هذا فضلًا عن إشرافي على رسائل الماجستير والدكتوراه بكلية الآداب قسم الاجتماع بجامعة الزقازيق، التي شرفت بالعمل كمعيدة فيها منذ عام 1976، حتى صرت أستاذة بالقسم نفسه.
ولا أنسى أنني شاركت كضيفة رئيسية في برامج التلفزيون بكل من قناة أبوظبي والعربية والقنوات الفضائية المختلفة في القاهرة، ومنها قناة "تن" و"المحور" و"القاهرة والناس" و"صدى البلد" والفضائية المصرية و"النيل الثقافية"... إلخ.
كما أن لي في جريدة الشروق ما يزيد على ثلاثين مقالًا في موضوعات اجتماعية وسياسية وثقافية.