في مثل هذا اليوم كل عام، تعود ذكرى رحيل الفنانة القديرة سهير البابلي لتذكرنا بأن بعض الفنانين لا يغيبون، حتى وإن غاب الجسد؛ فابتسامتها ما زالت تضيء الذاكرة، وصوتها لا يزال يتردد على خشبات المسرح، كانت مدرسة في الكوميديا الراقية، وامرأة سبقت زمنها بذكائها وفطنتها، جمعت بين الموهبة الفطرية والحضور الطاغي، فصنعت من كل دور قدمته لحظة خالدة في تاريخ الفن المصري.
ولدت سهير حلمي إبراهيم البابلي في 14 فبراير عام 1937 بمركز فارسكور محافظة دمياط، ونشأت في مدينة المنصورة بالدقهلية ، حيث كان والدها ناظرا لمدرسة المنصورة الثانوية ، وقد تنبأ لها بمستقبل فني مشرق بعدما لاحظ قدرتها على تقليد الممثلين منذ طفولتها، فالتحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية ومعهد الموسيقى في وقت واحد، متحدية رفض والدتها ومصممة على شق طريقها في عالم الفن.
بدأت سهير البابلي مشوارها السينمائي في الخمسينيات، وقدمت أفلاما مثل: «حياة امرأة»، «المرأة المجهولة»، «يوم من عمري»، «موعد مع الماضي»، و«لعبة الحب والجواز». ومع مطلع الستينيات، بدأت تلفت الأنظار بشخصيتها القوية وأدائها الكوميدي العفوي ، وجاءت انطلاقتها الكبرى عندما تعاونت مع فؤاد المهندس في أفلام مثل «جناب السفير» و«أخطر رجل في العالم»، لتصبح من أبرز نجمات الكوميديا المصرية.
وبرز نجمها في المسرح، الذي اعتبرته بيتها الأول، وقدمت من خلاله أعمالا خالدة أبرزها "مدرسة المشاغبين" ، التي لم تكن المرشحة الأولى لبطولتها، لكن أدائها لدور "أبلة عفت" جعلها جزءا من ذاكرة الجمهور المصري ، وعلى الرغم من صعوبة التعامل مع أبطال المسرحية بسبب كثرة ارتجالهم على الخشبة -كما ذكرت في العديد من اللقاءات- استطاعت أن تحافظ على حضورها القوي وهيبتها الفنية، ثم واصلت تألقها في مسرحيات "الدخول بالملابس الرسمية"، "ريا وسكينة"، "على الرصيف"، و"عطية الإرهابية"، تحت قيادة المخرج الكبير جلال الشرقاوي، الذي كان شريك نجاحها المسرحي.
وفي منتصف الثمانينيات، قدمت واحدا من أهم أعمالها الدرامية «بكيزة وزغلول»، بمشاركة صديقتها المقربة إسعاد يونس، والذي حقق نجاحا غير مسبوق بفضل التناقض الكوميدي بين الشخصيتين، ليصبح عملا خالدا في ذاكرة الجمهور المصري والعربي، أعقبه فيلم «ليلة القبض على بكيزة وزغلول» عام 1988.
وقدمت البابلي خلال مسيرتها الفنية الحافلة أكثر من 114 عملا فنيا ، شكلت معا رصيدا زاخرا يخلد اسمها في ذاكرة الفن المصري ، ومن أبرز أفلامها: صراع مع الحياة (1957) ، غرام تلميذة (1969)، أميرة حبي أنا (1974)، استقالة عالمة ذرة (1980)، ليلة عسل (1990)، والقلب وما يعشق (1996).
أما أعمالها الدرامية فتضم مسلسلات مميزة مثل: الحقيقة ..ذلك المجهول (1977)، عم حمزة (1981)، قلب حبيبة (2005) وقانون سوسكا (2016).
وفي المسرح، تركت بصمة لا تنسى من خلال مسرحيات خالدة أبرزها: جوزين وفرد (1966)، ريا وسكينة (1983)، ع الرصيف (1987)، عطية الإرهابية (1992).
وحظيت الفنانة سهير البابلي بتكريمات رسمية عدة خلال مسيرتها، كان أبرزها تكريمها في مهرجان "آخر موضة" للمحجبات عام 2015 تقديرا لرحلتها الفنية بعد اعتزالها وارتدائها الحجاب، ثم تكريمها من نقابة المهن التمثيلية عام 2017 خلال افتتاح الدورة الثانية من مهرجانها المسرحي، لعطائها الطويل وإسهاماتها المتميزة في المسرح والسينما والتليفزيون.
وتزوجت الفنانة الراحلة خمس مرات؛ كان أولها من محمود الناقوري الذي أنجبت منه ابنتها الوحيدة «نيفين»، ثم من المطرب والملحن منير مراد، وتاجر المجوهرات أشرف السرجاني الذي توفى لاحقا، فتزوجت بعده من رجل الأعمال محمود غنيم، كما ارتبطت بالممثل أحمد خليل.
رحلت سهير البابلي عن عالمنا يوم الأحد 21 نوفمبر 2021، في أحد مستشفيات القاهرة عن عمر ناهز 84 عاما، بعد تعرضها لوعكة صحية إثر إصابتها بغيبوبة سكر.
ورغم رحيلها، ما زال حضورها نابضا في وجدان عشاق الفن المصري؛ فقد كانت فنانة تعرف كيف تضحك الناس بعفوية، وتبكيهم بصدق، وتترك بصمة لا تمحى في كل مشهد، وبقيت أعمالها شاهدا على رحلة فنية استثنائية لامرأة أحبت المسرح فأحبها الجمهور، وستظل ذكراها رمزا للأصالة والبهجة في تاريخ الفن العربي.