بين فينةٍ وأخرى يخرج علينا البعضُ بأسئلةٍ شاذةٍ على آذاننا وطروحاتٍ نابية على عقولنا وقلوبنا حول ما ثبت لدينا من الدين بالضرورة، وجاء فيه النصُّ الثابت القاطع؛ مما حدا بالكثيرين أفرادًا ومؤسساتٍ لمجابهة أمثال هؤلاء والتصدي لأفكارهم، بل وحدّ تكفيرهم من قبل البعض.
وبعيدًا عن تقييمنا لأصحاب هذه الأسئلة، وتلك الطروحات، معتقدًا وفكرًأ وخلقًا وغيرها من أحكامٍ وتوصيفاتٍ منحناها لأنفسنا عن حقٍّ وقصدٍ أو من دونهما إلا أن الإيجابية من مثل تلك الأمور، والتي كان هؤلاء سببًا في تأصيلها لاسيما لمن يفكر ويتأمل دومًا ليس لتشككه وتردده وإنما ليطمئن قلبه، المطمئنُ أصلًا، ويزداد إيمانه ويترسخ يقينه عن علمٍ ومعرفةٍ وقناعةٍ ومنطقٍ سليمٍ واعٍ لا عن إرضاعٍ وتلقينٍ ووراثةٍ.
هذه الإيجابية هي العلم والمعرفة فيما جاءت به الردودُ العلمية المتأصلة من أصحاب العلم الرصين والحجة الدامغة وبالدليل العلمي القاطع الهادئ، لا مجرد تحليلٍ أو تأويلٍ أو إخضاع نصٍّ لإقرار فكرةٍ بعينها، ونحن بالفعل لها مؤمنون، ونُؤمن بها ونُقر لها، ونقبل فيها ما كان يلقيه علينا علماؤنا عادةً عبر المنابر المختلفة، مساجد وإعلام وقاعات درس وغيرها.
لكن ما من شكٍّ أن أسئلةً من نحو ما طرحه هؤلاء ربما كانت تدور بخَلدنا، وإن كنا من فورنا نقمعها ونستعيذ بالله من الشيطان من مثلها، وربما راودتنا ثانيةً وندفعها بما كان منا في المرة الأولى، إلى أن نرى مثل تلك الأصوات التي تجهر بها في العلن فنترقب الردود عليها، وكلنا فرحٌ وثقةٌ بردود علمائنا وحججهم الثابتة نصًّا فيها فيترسخ إيماننا الراسخ عن علمٍ، ويزداد قلبُنا الفرحُ بإسلامنا ثقةً وراحةً.
فعندما يتعرض -مثلًا- عالمٌ رصينٌ مثل الدكتور محمد عمارة، رحمه الله، بآيات القرآن الكريم فقط دون تحليلٍ أو تأويلٍ ردًّا على الدكتورة نوال السعداوي، رحمها الله، في مسألة ميراث المرأة نصف الرجل فيكون تَعداده للآيات التي تثبت خلاف وجهة نظرها في ذلك، وحكمة الشارع سبحانه في ذلك، ذاكرًا الآيات التي تأخذ فيها المرأة أكثر من الرجل، بل والتي ترث فيها دونه أصلًا، وكأني لأول مرة أنتبه لذلك رغم علمي بالمعلومة وإيماني بها لكن عندما تكون في إطار سؤال يُطرح بهذا الشكل تكون الانتباهةُ ومتعةُ المعلومة، وهكذا في باقي الردود.
وفي الأخير، يُحمد لهؤلاء تحريكُ الماء الراكد، وإثارةُ العقل، وإعمالُ الفكر حتى نتحصن بالعلم والمعرفة والحجة القاطعة الهادئة التي تفرزها مثلُ تلك المناظرات، فضلًا عن تلك المطاردات المحمومة عبر صفحات الكتب لمعلوماتٍ ظلت قابعةً أسيرةً دون حراكٍ ودون قانصٍ لها إلا من المختصين.
فنتحصن بذلك كله لتطمئن به قلوبنُا أولًا، وثانيًا لمجابهة ما قد يُثار حول ديننا من هنا أو هناك؛ فالإيمان يحتاج علمًا ومعرفةً للذود عنه، وليس جلبةً وقمعًا فكريًا لا يَنتج عنهما سوى إرهابِ فكرٍ ومزيدِ تشكيكٍ، وديننا من ذلك براء. فكم من سؤالٍ ظل يُروادنا في مثل تلك الأمور وغيرها، وكنّا نخشى أن نُجابه به، أو يلقى علينا استفسارًا أو حتى تحديًّا ولا نملك له عندئذٍ إجابة فنُصب بحرجٍ شديد في إيماننا نحن، لا ديننا، ثم نجد ضالتنا في مثل تلك المناظرات والتي هي بلا شك ممتعةٌ ومثمرة، نحو تلك التي كانت بين الدكتورين عمارة والسعداوي رحمهما الله، وغيرها لأولئك الذين ينافحون عن الإسلام ضد علماء ومفكري الديانات الأخرى المتربصين بديننا على نحو ما كان يقيمة الفارس المجاهد أحمد ديدات، وغيره من تلاميذه.
فالفضلُ إذن لمَن أثار سؤالًا، أيًّا كان دافعُه، وأيًّا كان مَن وراءه؛ استفز العلماء فراحوا يقدحون زناد أفكارهم، ويعصفون أذهانهم، ويعكفون على كتبهم للإجابة عنه بالحمكة، والموعظة الحسنة، والدليل البين، والمنطق السليم؛ كنا نحن في الأخير المستفيدين منه. والله يدعونا إلى إعمال العقل والفكر وصولًا للحق والمعرفة وتوحيده سبحانه وتعالى عن يقين تامّ، وحبًّا له يفوق سواه، وما نال أنبياؤه ورسله جميعهم مكانتهم تلك إلا بذلك، وطرحهم الأسئلة الكبرى. فما نوالُ المعرفةِ وبلوغ أرقى درجاتها إلا بالسؤال.