ما تمنيت على صديقي النابه الأستاذ “طه فرغلي”، رئيس تحرير مجلة الهلال البازغة، أمنية إلا وحققها بأريحية مهنية واحترافية تُحسب له. تمنيت عليه يومًا ليس ببعيد أن يحتضن سنوات التكوين في حياة المفكر المصري الكبير الدكتور مراد وهبة، حتى كان عيد ميلاده التاسع والتسعين. طلب مني الكتابة عمن أحب، وأفرد مساحة تليق بمقام المفكر الكبير في هلال هذا العدد، احتفاءً بمولد هلال قبل المائة السعيدة من عمره المديد، أطال الله عمره.
تذكرت من سنوات تكوين المفكر الكبير شذرات في ثنايا حوارات متصلة، بعضها منشور وبعضها مذاع، وبعضها حبيس الأوراق، أوراق العمر.. والنذر اليسير في هذه السطور محبة فيمن علمني حرفًا.
في حصة الفلسفة أشار المدرس "أحمد فؤاد الأهواني" إلى الطالب "مراد وهبه" قائلًا: هذا الطالب يبدو من ملامحه أنه سيكون فيلسوفًا عظيمًا..
لكن الطالب رد قائلًا: آسف يا أستاذ.. أنا هنا مؤقت، لأنني سأذهب إلى شعبة العلمي.
بالفعل انتقل الطالب النابغة إليها، وهناك وقف مدرس اللغة العربية يشرح قول امرئ القيس: "مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معًا كجلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علٍ"، وهو ما أصاب الطالب الصعيدي (من مواليد أسيوط) بالدهشة التي سرعان ما تحولت إلى سخرية، فتحول معها الفصل إلى فوضى!
تتحقق نبوءة المدرس ويصير "مراد وهبة" بروفيسورًا وأستاذًا للفلسفة بجامعة عين شمس وعضوًا في مجموعة من الأكاديميات والمنظمات الدولية المرموقة، كما أنه المؤسس ورئيس الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير عام 1994، واسمه مذكور في موسوعة الشخصيات العالمية، حيث يعتبر من بين الـ500 شخصية الأكثر شهرة في العالم.
في إحدى السنوات الجامعية وجد الأكاديمي مراد وهبة الطلاب ينصرفون عنه، فسألهم عن ذلك فقالوا: لدينا كل الأجوبة في القرآن ولا نحتاج إليك.. بدأت الأفكار تهرب منه ولا يكمل المحاضرات، وعندما أخبر مجلس الكلية جاءته الإجابة: "مافيش مشكلة"..!
تمر السنوات ويأتي العام 1998، يرن جرس التليفون في منزل دكتور مراد، يأتيه صوت رئيس الجامعة يطلب منه بكل برود أن يجلس في بيته لأن طلاب قسم الفلسفة لا ينامون بسبب أفكاره!
لم يستنم الدكتور على ضيمٍ مصحوب بجهل، ونذر نفسه لحرب الجهل الفكري على خطى أستاذه ومعلمه وشيخه ابن رشد، وانتهى إلى تأسيس المدرسة الرشدية في المشرق العربي، وذاع صيته في الغرب العلماني، وصار قبلةً لدارسي الفلسفة، وتُوّج فيلسوفًا كما تنبأ المدرس "أحمد فؤاد الأهواني" الذي كان مستبصرًا وصدق حدسه.