فى سن الطفولة ومع بداية الانتباه إلى حضارتنا المصرية القديمة تساءلت مثلما تساءل الكثير منا عن آثار تلك الحضارة العظيمة والموجودة فى كل مكان فى العالم، تمثال الملكة نفرتيتى زوجة إخناتون والموجود فى متحف برلين الجديد بألمانيا ومسلة الأقصر الموجودة بميدان الكونكورد فى باريس وغير ذلك من الآثار الشهيرة والمنتشرة فى المتاحف و الميادين وقاعات المزادات ولدى أثرياء العالم و كان التساؤل عن كيف وصلت إلى هناك؟!، هل من خلال التهريب والسرقة أم من خلال بعثات الاستكشاف الغربية التى كان يسيطر عليها الاحتلال أم تم إهداؤها لحكومات تلك الدول أم لأى سبب آخر؟!.
الحقيقة أن الأمر شديد التعقيد، يشمل التعقيد كل ما سبق وأكثر وفى نفس الوقت تابعنا رحلات الملك توت عنخ آمون فى متاحف العالم التى يحل فيها ضيفا فى زيارات يعود بعدها إلى أرض الوطن وتعجبنا على الفرق الشديد بين الإجراءات والقوانين والاحتياطات المتبعة وبين هذا الكم الكبير من الآثار الموجودة بالخارج.
فعلى سبيل المثال نجد أن تمثال الملكة نفرتيتيى عثرت عليه بعثة ألمانية للتنقيب عن الآثار عام1912 ميلادية بقيادة عالم الآثار الألمانى لودفيج بورشاردت الذى يقال أنه أخفى التمثال أو قلل من قيمته ووصفه بأنه مصنوع من الجبس وأنه فى حالة سيئة وهو ما جعل مفتش الآثار المعين من قبل سلطان البلاد آنذاك جوستاف يفبفر- فرنسى الجنسية- إلى أن يوافق على السماح بحصول الجانب الألمانى على التمثال ضمن اتفاقية التقسيم وفى قول آخر أنهما تواطئا معا وفى جميع الأحوال نستطيع أن نقول أن كل الاحتمالات قائمة وواردة.
الأمر أيضا لم يترك لاتفاقيات التقسيم الرسمية تماما مثلما بدأ محمد على عهده بالموافقة على العديد منها بالإضافة إلى إهداء بعض القطع لقادة أوروبا لأسباب سياسية، فهو نفسه أول من بدأ فى الانتباه إلى أهمية وقيمة تلك الآثار وعليه قام بإصدار مرسوم يحظر تماما تصدير جميع الآثار المصرية الناتجة عن الحفائر أو الإتجار بها، وأصدر أيضا مرسوما بإنشاء متحف للآثار الناتجة عن تلك الحفائر وتلى ذلك عدد من المراسيم فى عهد سعيد وإسماعيل و عباس حلمى الثانى بخصوص ترخيص التنقيب ومنع التصدير وصولا إلى القانون رقم الصادر عام 1912، والذى جاء به أن كل أثر في جميع أنحاء القطر المصري سواء كان على سطح الأرض أو في باطنها يعد من أملاك الحكومة العامة، ونص على ألا يُسمح للأشخاص بالتنقيب، وأن يقتصر التنقيب فقط على البعثات العلمية و لكن من الواضح طبعا وحالة تمثال نفرتيتى شاهد على ذلك، إن تلك المراسيم والقوانين لم تكن تحترم بالقدر المطلوب بالإضافة إلى صدور قرارات أخرى لحالات بعينها خالفت القوانين و سهلت خروج تلك القطع.
أما مسلة الأقصر والتى نقلت إلى باريس عام 1833 ميلادية- قبل مرسوم محمد على بسنتين- يقال إن محمد على قام بإهدائها بشكل رسمى إلى الحكومة الفرنسية والتى وضعت عينها على تلك التحفة وفكرت فى الاستحواذ عليها منذ وجود نابليون بونابرت فى مصر وتحديدا عام 1799 ميلادية، وربما لعظم هذين الأثرين نجد بعض المعلومات عن أسلوب خروجهما خارج البلاد، وكلما كان الأثر أصغر حجما صعبت عمليات التتبع والاكتشاف مقانة بالقطع الأكبر حجما مثل المسلة مثلا حتى أن المصريين بسخريتهم المعتادة يرددون مقولة أن سبب بقاء أهرامات الجيزة فى مكانهم هو صعوبة تفكيكهم و شحنهم وإعادة تركيبهم مرة أخرى فى دول الاحتلال.
نأتى الآن إلى محاولة النظر إلى الصورة الكلية ولنفعل ذلك نحتاج إلى إحصائيات وهنا نصطدم بغياب الأرقام الدقيقة أو حتى التقريبية، فالبعض يشير إلى أن أعدد القطع الموجودة فى الخارج قد يتخطى حاجز المليون قطعة فيما لا يشير أى مصدر موثق إلى وجود رقم ولو حتى تقريبى، حتى أماكن العرض من متاحف ومعارض يقدرها البعض بأنها أكثر من 50 متحفا حول العالم يتواجد بها قطع أثرية مصرية غير معلوم كيف وصلت إلى هناك أو بالقليل من المعلومات المشوشة وغير المؤكدة ولذلك ونظرا لعدم وجود بيانات حصر دقيقة تسمح بوضع خطة تفصيلية للاسترداد خاصة فى ظل حدوث تلك العمليات فى عهود سابقة وفى وجود أطراف كثيرة كلها أطراف غير مصرية ولكنها تحكمت فى ثرواتنا لأسباب معروفة إلا أن هذا لا يجب أن يمنع من استمرار جهود محاولات الاسترداد والتى تتم بتكاتف جهود كثيرة حكومية وغير حكومية فى بعض الأحيان أيضا.
والحقيقة أن هذا الأمر رغم تشابكه إلا أن صعوبة الاسترداد يظهر الوجه الآخر للعالم المتقدم، وجه يختلف كثيرا عن محاولات لإيحاء الأمانة والصدق واحترام القوانين وصون الحقوق، فماذا سيكون الوضع إن كانت الآية معكوسة بمعنى أن دولة كإنجلترا أو فرنسا وجدت قطعة أثرية معروضة فى متحف مصرى، هل كانت ستتركها أم ستحاول استردادها إلا أن يتمكن الجانب المصرى من إثبات كيف وصلت القطعة إليه حتى وضعها فى متحف عام ليراها زواره، صون الحقوق فى أبسط صوره يحتم على من يملك شيئا ما إن يظهر وثائق الملكية متى طلب منه ذلك وإلا فإنه يكون فى ورطة حقيقية وعليه إرجاع ما يملك، ولكن للأسف تلك القطع تعامل معاملة خيرات البلاد المنهوبة إبان عهود الاحتلال مثل المحاصيل الزراعية و مجهود العمال والفلاحين و غير ذلك.
منظمة اليونسكو تعمل بشكل جيد ولكن فى إطار الحديث عن تصدير القطع الأثرية ونقل ملكيتها بطرق غير مشروعة حيث قامت فى عام 1970 بوضع اتفاقية بشأن وسائل حظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة وهى الاتفاقية التى تستند إليها مصر فى إعادة القطع المسروقة وهو ما يتم فى النهاية، ولكن بعد جهد جهيد وإجراءات معقدة، والحقيقة أن قضية استرداد الآثار المسروقة والمهربة هى قضية لن تنتهى ولا يمكن حصرها فى الآثار التى تسربت خارج البلاد قبل محمد على أو حتى بعد قيام الدولة المصرية بإجراءات كثيرة بخصوص حصر وتوصيف القطع و التشديد على حملات التنقيب وعلى عمليات التهريب. ولكن ما لا يدرك جله لا يترك كله وللدلالة على استمرار هذا الأمر فلك أن تتخيل عزيزى القارئ أنه قد تم استرداد ما يقرب من 30 ألف قطعة أثرية خرجت من البلاد أثناء وبعد أحداث يناير 2011 و لذلك لا يجب أن نصاب باليأس أو نقلل من قيمة المجهود المبذول لاسترداد عدد محدود من القطع مثلما تم خلال نوفمبر 2025 حينما أعلنت وزارة السياحة والآثار عن استرداد 36 قطع أثرية من الولايات المتحدة الأمريكية بموجب مذكرة التفاهم الثنائية بين مصر والولايات المتحدة في مجال حماية واسترداد الآثار.
الأمر شديد التعقيد وهذا المقال لا يمكنه إيجاد حل نهائى لتلك المعضلة، ربما تكون قد وصلت فى نهايته عزيزى القارئ إلى حالة من عدم الارتياح أو وضوح الرؤية ولكننا فى الحقيقة نحتاج جميعا إلى التأكيد على عدة أمور منها كما سبق وأسلفنا ما هو مرتبط بتعقيد وتداخل أساليب خروج تلك القطر عبر العصور المختلفة، ومنها أيضا تعنت الأطراف الأخرى وغضها الطرف عن تلك الحقوق بل وصل الأمر ببعضهم إلى القول أن هذا تراث إنسانى ومن حق الجميع، وكلمة حق يراد بها باطل، فكما أن الحضارة المصرية تخاطب البشرية كلها إلا أن هذا لا يمنع ولا يجب أن يوضع فى جملة واحدة مع أحقية الدولة الأصيل فى عودة تراثها لها، ثم تتم إتاحته للبشرية بطرق مشروعة منها المتحف المصرى الكبير والرحلات الخارجية المنضبطة والمحكومة وغيرها من الأساليب المشروعة، كما يؤكد إثارة هذه القضية على أهمية استمرار حملات محاولة استعادة القطع الأثرية وعلى الاحتفاء بما تقوم به من إنجازات مهما قل عدد القطع المستردة وفى جميع الأحوال ضرورة استمرار الحملات الإعلامية الرسمية والشعبية للمطالبة باسترداد كافة القطع، فمن غير المقبول أن تجد حجر رشيد فى لندن ورأس نفرتيتى فى بريلن ومسلة الأقصر فى باريس وجدارية معبد حتحور بدندرة فى اللوفر فالسكوت عن الإشارة إلى وجود قطع فى الخارج قد يجعل القضية تنسى والملكية تثبت بالأمر الواقع أو تنسى تماما بالسكوت عن إثارتها.
القضية ليست مرتبطة بالآثار الفرعونية وحسب فمصر مرت بمراحل عدة بعد ذلك أيضا من عصر الإغريق والرومان والعصر القبطى والإسلامى وصولا إلى العصر الحديث ويشمل الامر ايضا الفنون التشكيلية من رسم ونحت فوجود لوحة لمحمود سعيد أو تمثال لمحمود مختار يجب أن يعاملا معاملة تمثال نفرتيتى أو حتى جعران صغير فى مقبرة فرعونية لشخص مجهول.