ليست الآثار المصرية مجرد أحجار منقوشة أو تماثيل صامتة أو توابيت محنطة تُعرض داخل متاحف العالم، بل هي شواهد حيّة على عبقرية الإنسان المصري القديم الذي بنى أعظم حضارة في التاريخ الإنساني. إنها ليست تراثًا ماديًا فحسب، بل كتاب مصر الأول، وذاكرتها الجمعية، وجذور هويتها الممتدة في أعماق الزمن. فكل نقش على جدار، وكل تمثال في ركن من المعابد، وكل تابوت في جوف الأرض، يحمل قصة إنسانٍ آمن بالخلود، وبنى للعالم فلسفة في الوجود لم تُمحَ رغم مرور آلاف السنين.
وحين تُسرق هذه الآثار، لا تُسرق قطعة من الحجر أو الذهب فحسب، بل يُنتزع جزء من روح مصر، ويُصاب وجدانها بجرح لا يندمل. لأن الأثر المصري ليس مجرد قطعة فنية تُقدَّر بقيمتها المادية، بل هو رمز للهوية والكرامة والانتماء، يمثل صلة لا تنقطع بين المصري المعاصر وأجداده الذين علّموا العالم معنى الدولة والنظام والعدالة والخلود. إن كل أثر يغادر أرض مصر يُخلّف فراغًا في ذاكرة الأمة، ويجعل ماضيها مبعثرًا في متاحف الآخرين.
منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، بدأت القصة المأساوية لنهب آثارنا. حينها اكتشف الغرب، بدهشةٍ وإعجاب، عظمة الحضارة المصرية، لكنه لم يكتفِ بالإعجاب، بل أراد امتلاكها. كانت فرنسا، ثم بريطانيا، ومن بعدهما أوروبا بأكملها، تتعامل مع آثار مصر كغنيمة علمية وحضارية. حمل نابليون معه علماءه، لا ليفهموا فقط، بل لينقلوا ويجمعوا ويصادروا. فكانت النتيجة أن آلاف القطع غادرت الوطن لتؤسس متاحف في باريس ولندن وبرلين.
خرج حجر رشيد إلى لندن عام 1802 بعد أن استولى عليه البريطانيون من الفرنسيين، ليصبح رمزًا للهيمنة الاستعمارية على ذاكرة الشعوب. فهو لم يكن مجرد لوح من الحجر، بل المفتاح الذي فُكّ به لغز الكتابة المصرية القديمة، وأعاد للحضارة المصرية صوتها بعد صمت آلاف السنين. ومع ذلك، ظلّ بعيدًا عن وطنه، كأنه أسير في متحفٍ يروي حكايةً ناقصة بلا أصحابها.
ثم تبعته آلاف القطع الأخرى التي شُحنت إلى باريس وبرلين وروما ونيويورك، بعضها خرج في صناديق البعثات الأثرية باسم العلم والاكتشاف، وبعضها الآخر عبر التهريب والتواطؤ والبيع العلني في الأسواق والمزادات. وهكذا تحوّلت ذاكرة مصر إلى سلعة في أيدي من لا يعرف قيمتها الحقيقية، وبدأت رحلة الاغتراب الطويلة لتراثنا، رحلة ما زال المصريون يسعون لإنهائها حتى يعود التاريخ إلى موطنه، وتعود الروح إلى جسد الحضارة من جديد.
لم تكن تلك السرقات مجرد أعمال فردية، بل كانت سياسة ممنهجة من قوى استعمارية أرادت أن تمتلك الماضي كما امتلكت الحاضر. كان في ذلك الوقت نظام "القسمة" الذي يسمح للأجانب بأخذ نصف ما يُكتشف، وكأن التاريخ يُقسم مثل الغنائم!
ولم يكن المصريون يدركون حينها أن كل قطعة تُغادر أرضهم تُسلب معها قصة، وأسطورة، ورمز من رموز حضارتهم التي علّمت البشرية معنى الدولة والعدالة والخلود.
انظر إلى رأس نفرتيتي في متحف برلين: وجه ملكة مصرية عظيمة، جميل كالشمس، يطلّ على العالم من منفى بعيد، بينما مكانها الطبيعي في طيبة أو القاهرة أو المتحف المصري الكبير.
انظر إلى حجر رشيد في المتحف البريطاني، ذلك الأثر الفريد الذي يحمل بين نقوشه خلاصة روح الحضارة المصرية وعبق تاريخها العريق، ومع ذلك لا يزال بعيدًا عن وطنه، كأنه رهينة في يد من يدّعي حبّ حضارتنا، وهو في الحقيقة يحتجزها خلف الزجاج بعيدًا عن أصحابها الحقيقيين.
هذه القطع ليست مجرد آثار، بل هي رموز حية. إنها تمثل الحق المصري المسلوب، والذاكرة التي لا تكتمل إلا بعودتها. فكما لا يمكن أن نتخيل باريس من دون برج إيفل، لا يجوز أن نتخيل برلين تحتفظ برأس نفرتيتي، أو لندن بحجر رشيد، بينما أبناء الحضارة أنفسهم يُحرمون من رؤيتها على أرضهم.
تتحدث المتاحف الغربية عن "الحفاظ على التراث الإنساني"، لكنها في الحقيقة تمارس نوعًا من الاستعمار الثقافي. إنهم يحتفظون بتراثنا بدعوى حمايته، وكأننا عاجزون عن صون ما صنعناه منذ آلاف السنين!
لكن مصر اليوم ليست مصر القرن التاسع عشر. مصر المعاصرة، بمؤسساتها العلمية والمتحف المصري الكبير، أعظم متحف أثري في العالم، قادرة تمامًا على حماية تراثها وإبرازه بأحدث الوسائل التقنية والعلمية.
إن حجة "الملكية القانونية" التي يرددها البعض سقطت أخلاقيًا قبل أن تسقط قانونيًا. فالقانون لا يبرر السرقة، ولا يشرعن اغتصاب التراث. العالم تغيّر، وصار أكثر وعيًا بأهمية العدالة التاريخية، والاعتراف بحق الشعوب في امتلاك ماضيها. فكما أُعيدت آثار إلى اليونان والعراق ونيجيريا، فإن من حق مصر - التي منحت العالم أول حضارة، وأول متحف، وأول فكرة للخلود- أن تستعيد ما سُلب منها.
استعادة آثارنا ليست مجرد قضية قانونية أو دبلوماسية، بل قضية كرامة وطنية وإنسانية. حين نطالب بعودة آثارنا، فإننا لا نبحث عن متعة بصرية أو مكسب مادي، بل نبحث عن استعادة حقّ رمزي وتاريخي.
الآثار ليست ملك الأجيال الحالية فقط، بل هي أمانة للأجيال القادمة. وحين تُعرض آثارنا في متاحف الغير، فإن المصريين يُحرمون من رؤية تاريخهم أمام أعينهم، ومن التعلم من عبقرية أجدادهم الذين علّموا البشرية الطب والهندسة والفلك والفن.
لقد حققت الدولة المصرية في السنوات الأخيرة إنجازات ملحوظة في ملف استرداد الآثار، بفضل الجهود المتواصلة لوزارة السياحة والآثار، وبالتعاون الوثيق مع وزارة الخارجية والجهات المعنية كافة. فقد تبنت الدولة نهجًا علميًا ومنهجيًا يقوم على المتابعة الدقيقة لحركة المزادات الدولية، والتنسيق مع الإنتربول، وتوثيق كل قطعة أثرية خرجت من مصر بطريقة غير مشروعة، بما يعكس إرادة وطنية صلبة لحماية التراث واستعادة حقوق مصر التاريخية.
عادت إلى أرض الوطن خلال السنوات الأخيرة قطع نادرة ثمينة، من بينها تابوت الكاهن "نجم عنخ" من الولايات المتحدة، إلى جانب آلاف القطع الأثرية المستردة من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا وغيرها من الدول. وعلى الرغم من أن الطريق ما زال طويلًا، فإنه طريق وطني مقدّس، يعكس إصرار المصريين على استعادة تراثهم قطعةً بعد أخرى، حتى تعود كل آثارنا إلى حضن مصر، حيث تنتمي حقًا.
مصر لا تطلب شيئًا أكثر من حقها، ولا ترفع شعار المواجهة، بل الحوار الحضاري. فالحضارة المصرية ملك للعالم، نعم، لكنها ملك للعالم من خلال مصر، لا بعيدًا عنها.
إن ما نطالب به هو أن تُعرض القطع المصرية في متاحف العالم بالتعاون مع مصر، وبرؤية مصرية، ووفق اتفاقات عادلة تحفظ حقوق الملكية والهوية. العالم اليوم يتجه نحو شراكات ثقافية جديدة، تقوم على المشاركة لا المصادرة، وعلى الاحترام لا الوصاية. ومصر يجب أن تكون في قلب هذه الحركة، بوصفها صاحبة أقدم وأعظم تراث إنساني على وجه الأرض.
حين فتح المتحف المصري الكبير أبوابه على العالم، تم إعلان ميلاد عصر جديد في علاقة مصر بتراثها. إنه أكبر متحف أثري في التاريخ، يضم أكثر من مئة ألف قطعة، بينها المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون، والتي تُعرض لأول مرة في سياق علمي متكامل. هذا المتحف ليس مجرد مبنى، بل بيان حضاري يقول للعالم إن مصر قادرة على حفظ تراثها، وعلى تقديمه بأبهى صورة، دون حاجة إلى وصاية أحد.
وهو في الوقت ذاته رسالة صامتة إلى كل المتاحف الغربية، مفادها أنه قد انتهى زمن الهيمنة، وبدأ زمن العدالة الحضارية.
لن تنجح معركة استعادة الآثار ما لم يتحول الوعي الشعبي إلى درع حقيقي لحماية التراث. علينا أن نُربي أبناءنا على احترام الأثر، لا على النظر إليه كغنيمة تُباع وتُشترى، وأن نفهم أن كل تمثال مكسور أو حجر منقوش هو وثيقة حياة، تحكي قصة أجدادنا العظام.
حين يؤمن المصريون جميعًا بأن حماية آثارهم هي حماية لكرامتهم، لن تجرؤ يد على العبث أو التهريب. ربما يستغرق الأمر سنوات أو عقودًا، لكن يومًا ما سوف تعود نفرتيتي إلى مصر، وسوف يُعرض حجر رشيد في المتحف المصري الكبير، وسوف يتنفس التاريخ المصري كاملًا من جديد.
فالتاريخ لا ينسى، والعدالة قد تتأخر لكنها لا تموت. وإذا كانت القوى الاستعمارية قد سلبت منا آثارنا، فإن قوة الوعي، والعلم، والإصرار الوطني، سوف تعيدها إلينا.
الآثار ليست ملكًا لحكومة أو وزارة، بل ملك لمصر كلها، أرضًا وإنسانًا وتاريخًا. هي صوت الأجداد في آذان الأبناء، ومرآة نرى فيها وجهنا الحقيقي. ومن هنا، فإن استعادتها ليست مجرد قضية تراث، بل قضية وجود.
كل قطعة مسروقة هي شاهد على ظلم الماضي، وكل قطعة عائدة هي انتصار للحاضر والمستقبل. لقد آن الأوان أن يسمع العالم صوت مصر وهي تقول بوضوح:
أعيدوا لنا آثارنا، فأنتم أخذتموها في زمن الضعف، ونحن اليوم نطالب بردها في زمن القوة والعلم والكرامة.
لقد انتهى ذلك العصر الذي كان فيه صوت الشعوب خافتًا أمام جبروت الإمبراطوريات. انتهى زمن الاستعمار حين كانت البعثات الأجنبية تنقّب لتسرق، وتكتشف لتحتكر، وتنقل آثارنا لتزيّن بها متاحفها، وتروي قصتنا بأصوات غيرنا. مصر اليوم ليست مصر الأمس، إنها دولة تعرف قدر نفسها، وتعي قيمة تراثها، وتدرك أن من لا يحمي ماضيه لا يملك مستقبله.
إن مطالبتنا بعودة آثارنا ليست دعوة إلى الانتقام أو تصفية حسابات مع التاريخ، بل نداء للضمير الإنساني كي يصحح خطأً أخلاقيًا ظلّ قائمًا لقرون. فكيف يمكن للعالم أن يتحدث عن العدالة الثقافية بينما يحتفظ بتراث ليس له؟ كيف تُرفع شعارات احترام التنوع والحضارات، بينما تُعرض آثار أمة كاملة بعيدًا عن أرضها التي أنجبتها؟
الآثار ليست ملكًا لمن يقتنيها، بل لمن صنعها بدمه وعرقه وخياله. كل تمثال مصري في متحف أجنبي هو شاهد على عبقرية الإنسان المصري القديم، ولكنه في الوقت ذاته شاهد على جريمة الصمت الدولي تجاه حقوق الشعوب في تراثها. وما نطالب به ليس ترفًا ثقافيًا، بل حقًّا حضاريًا أصيلًا كفلته المواثيق الدولية، وأقرّته الأخلاق قبل القوانين.
لقد تغيّر وجه العالم، وأصبح وعي الشعوب أقوى من جدران المتاحف. لم تعد الهيمنة الثقافية مبررًا للاحتفاظ بالموروثات المنهوبة. العالم الحديث يقوم على الشراكة، وعلى التبادل، وعلى الاعتراف المتبادل بالقيمة، لا على المصادرة والاحتكار. ومصر، التي علّمت الإنسانية معنى الخلود والعدالة، لا يمكن أن تقبل أن تظل رموزها الخالدة رهائن وراء الزجاج في متاحف الغير.
إن عودة الآثار إلى موطنها الأصلي ليست فقط استعادة لأشياء مادية، بل استعادة للكرامة، وللذاكرة، وللرواية المصرية لتاريخها. فحين تعود رأس نفرتيتي إلى طيبة أو إلى القاهرة، وحين يُوضع حجر رشيد في المتحف المصري الكبير، فإن التاريخ يكتمل، ويستعيد صوته بلغته الأصلية. إنها لحظة رمزية عميقة، تعيد التوازن بين الماضي والمستقبل، بين من صنع الحضارة ومن ادّعى حمايتها.
إننا لا نطالب سوى بما هو لنا، وبما يعرفه العالم كله أنه خرج من مصر في لحظة اختلال للميزان. اليوم تغيّر كل شيء: لدينا المتاحف، والعلماء، والتكنولوجيا، والدولة القادرة على حفظ وصيانة تراثها وفق أعلى المعايير العالمية. لم نعد بحاجة إلى من "يحمي" آثارنا، بل العالم هو من بحاجة إلى أن يتعلم من مصر كيف تحافظ على آثارها وهي ممتدة في الصحراء والوديان منذ سبعة آلاف عام.
فلا حضارة تزدهر على حساب أخرى، ولا ذاكرة تكتمل إلا إذا عادت إلى موطنها الأول: أرض مصر، أمّ الحضارة والتاريخ. إنها دعوة إلى العالم بأن يكون منصفًا، وأن يسمع النداء القادم من أعماق الزمن:
أعيدوا لمصر ما هو لمصر، أعيدوا لها ذاكرة الإنسانية التي وُلدت على ضفاف نيلها، فكما وهبتكم الحضارة، آن لها أن تسترد حقها المشروع في رواية قصتها على أرضها، بأصوات أبنائها، وتحت سمائها الخالدة.