كانت الحضارة المصرية القديمة أكثر من مجرد دولة نشأت على ضفاف نهر، لقد كانت عقلًا جمعيًّا اخترع مبكرًا معنى أن يكون الإنسان صانعًا للمعرفة، ففي مصر وُلدت أول دولة مركزية وظهر أول نظام للبيروقراطية المنظمة، وخرجت أول فكرة للكتابة بوصفها أداة لقياس الزمن وضبط العالم لا مجرد وسيلة لتدوين الأصوات، ومن هنا بدأت شرارة العقل الإنساني تتسع، فتعلم اليونان لاحقًا من علوم المصريين في الطب والفلك والهندسة، واستلهمت حضارات الشرق تنظيم الدولة من نموذج وادي النيل، واستعار الرومان تقنيات العمارة والنحت والزراعة من جذور مصرية خالصة.
لم تكن مصر حضارة منعزلة، بل كانت مَعملًا أوليًا للأفكار الكبرى ومحطة الإقلاع الأولى للتاريخ الطويل، فحيثما وُجد علم في العالم القديم كانت جذوره تمتد بشكل مباشر أو خفي إلى مدرسة الكهنة المصريين، وإلى مكتبات المعابد، وإلى عبقرية الإنسان الذي التقط أسرار الطبيعة قبل أن يلتقط اسمها. وبقدر ما منحت مصر العالم من حكمة وعلوم وفنون بقدر ما دفعت ثمنًا فادحًا من الذاكرة المنهوبة والقطع المهاجرة التي خرجت من أرضها بفعل الطمع والحروب والاستعمار.
وهنا تبدأ حكاية السرقات الأثرية التي لم تُكتب نهايتها بعد.
وتبدأ هذه الحكاية من اللحظة التي وطئت فيها أقدام الإسكندر الأكبر أرض مصر، فهي اللحظة الأولى في التاريخ التي تدخل فيها مصر تحت حكم قوة أجنبية تمتلك مشروعًا توسعيًا حقيقيًا يعتمد على السيطرة على المعرفة قبل السيطرة على الأرض، فالإسكندر، كما تروي مصادر متعددة، لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان تلميذًا لأرسطو يقيس قوة الشعوب بمقدار ما تحمله من علوم، ولذلك اتجه مباشرة إلى المعابد، خصوصًا معبد آمون في واحة سيوة، ثم إلى مراكز المعرفة في منف
وهليوبوليس، وبدأ معاونو الإسكندر بجمع الكتب والنصوص والبرديات والخرائط، بعضها نُقل إلى مقدونيا وبعضها الآخر أصبح أساسًا للمكتبة التي أسسها البطالمة لاحقًا في الإسكندرية.
وهذا الاستيلاء الأول لم يكن مجرد حادث عابر، بل كان بداية خسارة كبرى في الذاكرة المصرية، لأن الكتب التي خرجت في تلك الفترة لم تعد قط إلى موطنها، ومعظمها أصبح لاحقًا مرجعًا لنهضة الفلسفة اليونانية. ومن هنا يتضح أن السرقات الأثرية لم تبدأ من الحملة الفرنسية كما يتصور البعض، بل بدأت منذ لحظة الغزو المقدوني عندما أدركت القوى الأجنبية أن المعرفة المصرية ليست كنزًا محليًا، بل كنزًا عالميًا لا يُقدَّر بثمن.
ومع دخول البطالمة إلى الحكم وبناء مكتبة الإسكندرية، حدث شكل آخر من أشكال “الاستحواذ” على المعرفة، فمدينة الإسكندرية أصبحت مركز العالم العلمي، لكن معظم محتوى مكتبتها كان ناتجًا من مشروع ضخم لجمع التراث المصري القديم وترجمات النصوص الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية، وهو ما يعني أن جزءًا معتبرًا من الذاكرة المصرية أُعيدت صياغته داخل إطار يوناني، أي أُخذت المعرفة المصرية الخام ووُضعت في سياق يخدم رؤية البطالمة، وبذلك بدأت أيضًا أول عملية "نزع هوية" علمية وفكرية.
ثم جاء العصر الروماني ليحمل معه شكلًا جديدًا من النهب المنهجي، فقد عرف الرومان قيمة الفن المصري، خصوصًا في النحت والعمارة والبرديات الطبية، وبدأوا في إرسال بعثات ممنهجة لنسخ النصوص ونقل التماثيل، وبعض هذه التماثيل موجود اليوم في متاحف روما ونابولي ولندن، مثل تماثيل إيزيس وسيرابيس والتماثيل الرخامية المنقولة من معابد مصرية الأصل إلى الفيلات الرومانية.
ومع سقوط الدولة الرومانية الشرقية ومرور العصور الوسطى، انقطعت السرقات المنظمة لفترة طويلة، حتى جاءت اللحظة الأخطر في العصر الحديث: حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798. هنا تحوّلت سرقة الآثار من فعل فردي إلى مشروع سياسي وعلمي منظم، فالجيش الفرنسي كان يصحبه 167 عالمًا ومهندسًا ورسامًا ومؤرخًا في أكبر عملية “مسح حضاري” تمت في الشرق القديم، كانت مهمتهم جمع كل المعلومات الممكنة عن مصر:
طبوغرافيا، آثار، نبات، حيوان، هندسة، لغات. جمع الفرنسيون عشرات الآلاف من النقوش والرسومات والمسودات، ونقلوا عددًا كبيرًا من القطع الأثرية، أشهرها على الإطلاق حجر رشيد الذي استولى عليه البريطانيون لاحقًا. وكان الفرنسيون ينظرون إلى الآثار المصرية ليس كأملاك دولة، بل كـ“غنائم حرب”، وهذا التعبير ورد حرفيًا في مراسلات نابليون مع قادته، وكان يعني أن ما يجدونه من نقوش وتماثيل هو ملك للجيش الفرنسي وليس للمصريين، وهذا الفكر الاستعماري لم يحكمه سوى القوة.
وعندما دخل الإنجليز مصر بعد خروج الفرنسيين، ورثوا هذا المنهج، فبدأت بعثاتهم الأثرية تجمع وتشتري وتنقل عشرات القطع إلى أوروبا، وظهر تجار الآثار الأوروبيون الذين كانوا يشترون التمائم والبرديات والمومياوات من الأهالي ويصدرونها إلى الخارج في سفن دون أي رقابة، وكانت مصر في حالة انهيار سياسي يجعلها عاجزة عن حماية تراثها.
ومع منتصف القرن التاسع عشر أصبحت تجارة الآثار في مصر “سوقًا رسميًا” تقريبًا، وأصبحت البعثات الأجنبية تمتلك حق تقسيم الاكتشافات، فكانت القطع المكتشفة تُقسم بين مصر والبعثة، وخرج من البلاد آلاف القطع بهذه الطريقة الشرعية ظاهريًا. وفي هذا السياق يجب أن نتوقف عند المثال الأبرز وهو اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922، التي عُثر فيها على نحو 6000 قطعة أثرية تخص ملكًا حكم تسع سنوات فقط، وهذا الرقم وحده يكشف حجم ما يمكن أن تحتويه مقبرة ملك حكم سبعة وستين عامًا مثل رمسيس الثاني، الملك الذي عاش في ذروة القوة والثراء وامتلك إمبراطورية كاملة، فلو كانت مقبرته سليمة لربما احتوت عشرات الآلاف من القطع، لكن مقبرة رمسيس الثاني نُهبت منذ العصور القديمة، وربما خرج كثير من محتوياتها عبر القرون إلى خارج مصر، وهو ما يفتح الباب أمام سؤال مؤلم: كم من كنوز الفراعنة مفقود؟ وكم منها يقبع اليوم في متاحف العالم دون أن يعرف أحد مصدره الحقيقي؟
إن حجم المسروقات الأثرية يمكن قياسه بشكل غير مباشر عبر مقارنة المقابر السليمة بالمنهوبة، فمقبرة توت عنخ آمون كانت استثناءً تاريخيًا لأنها دُفنت تحت أنقاض أكواخ العمال، فنجت من اللصوص، بينما معظم المقابر الأخرى نُهبت منذ آلاف السنين، بدءًا من عصابات منظّمة في عصر الرعامسة، وصولًا إلى لصوص القرون الوسطى، ثم لصوص العصر الحديث. ولذلك فإن المقارنة بين مقبرة ملك صغير ومقابر الملوك العظام تكشف حجم الفقد الذي لا يمكن إحصاؤه.
وفي العصر الحديث، وبرغم القوانين التي أصدرتها مصر منذ القرن التاسع عشر، فإن السيطرة على تجارة الآثار ما زالت ناقصة، ليس عجزًا من الدولة، بل بسبب الكثافة الاستثنائية للآثار في الأرض المصرية، فمصر هي الدولة الوحيدة في العالم التي يمكن أن يُكتشف فيها أثر جديد كل يوم تقريبًا، إذ تشير تقديرات أثرية إلى أن نسبة كبيرة من آثار مصر لا تزال مدفونة، وربما لم يُكتشف منها سوى 30٪ فقط، وهذا يعني أن عمليات الحفر العشوائي والسرقة تحدث طوال الوقت لأن الأرض نفسها غنية إلى حد يصعب ضبطه، وفي ظل وجود قرى كاملة مبنية فوق مقابر ومناطق أثرية، تزداد المشكلة تعقيدًا.
واليوم توجد آلاف القطع المصرية في متاحف العالم الكبرى: المتحف البريطاني، اللوفر، متحف برلين، المتحف المصري في تورينو، المتحف المتروبوليتان في نيويورك، وهي قطع خرجت عبر بيع مشبوه أو تقسيم بعثات أو سرقة مباشرة. ومن أبرزها رأس نفرتيتي، حجر رشيد، تمثال الكاتب الجالس (نسخة منه فقط في مصر)، تابوت نجم عنخ، مسلات كاملة مثل مسلة باريس ومسلة لندن.
ورغم جهود الدولة المصرية في استعادة الآثار، والتي نجحت في استرداد آلاف القطع خلال العقدين الأخيرين، فإن الخطر ما زال قائمًا، لأن السوق الدولي للآثار يعتمد على شبكات تهريب معقدة، بعضها يمتد إلى أوروبا والخليج وأمريكا اللاتينية. لكن يبقى الأمل في أن الوعي العالمي يتغير، وأن فكرة إعادة الممتلكات الثقافية بدأت تفرض نفسها، وأن مصر باتت تملك أدوات قانونية وسياسية وإعلامية أقوى من أي وقت مضى، ومع ذلك تظل الحقيقة قائمة: ما ضاع من الذاكرة المصرية أكثر مما عاد، وما خرج من أرض مصر خلال ألفي عام يحتاج إلى مشروع دولي ضخم لاستعادته.
إن قصة آثار مصر المسروقة ليست مجرد حكاية قطع نُقلت من مكان إلى آخر، بل هي قصة عن قيمة الهوية، وقصة عن كيف يصبح التراث هدفًا للطامعين عندما تكون الأمة منشغلة بجرحها، وقصة عن كيف تصنع الحضارة التي تُنقذ العالم من الجهل ثمنًا فادحًا عندما تتحول إلى كنز يسيل له لعاب الجميع. ورغم كل ذلك تبقى مصر، بتربتها وعمقها وتاريخها، أكبر من أن تُنهب، لأن الحضارات العظيمة لا تُسرق، بل تتجدد، وكل قطعة خرجت من أرضها تظل تشهد على شيء واحد: أن هذه البلاد كانت ولا تزال أصل الحكاية.