جاءت كلمة مصر في الاجتماع الثالث والثلاثين للمجلس الوزاري لوزراء المياه بدول حوض النيل كمحاولة واعية لإعادة تعريف معادلة العلاقات داخل حوض النيل وصياغة خطاب جديد يتجاوز تراكمات الصراع ومطبات سوء الفهم التي حكمت علاقة دول الحوض لسنوات وقدمت مصر مشروعا سياسيا وأخلاقيا معا يستند إلى منطق المشاركة لا المغالبة وإلى الاعتراف المتبادل لا فرض الإرادة وتعكس مبادرة حوض النيل إدراكا عميقا لطبيعة اللحظة وهي المنصة الشاملة والوحيدة القادرة على توحيد كل دول الحوض ومن هنا يبدو أن الوعي بأن الإطار المؤسسي ليس تفصيلا إداريا بل هو صمام أمان يمنع الانجراف إلى سياسات الأمر الواقع ما تريد مصر أن ترسخه وهو أن الشمولية ليست خيارا ترفيا بل ضرورة لضمان العدالة في التعامل مع مورد مشترك يتخطى الحدود السياسية.
وكان من اللافت أيضا طريقة تناول العملية التشاورية حول الاتفاقية الإطارية فالكلمة لا تتعامل معها باعتبارها ملفا قانونيا جامدا بل باعتبارها فرصة تاريخية لإعادة بناء الثقة واستعادة الشمولية كما أن الحديث عن استعداد مصر لاستئناف عضويتها الكاملة إذا توفرت بيئة التعاون تظهر محاولة لتغيير زاوية الرؤية فالمسألة ليست رفضا أو قبولا تقنيا وإنما موقفا مرتبطا بمدى احترام روح المشاركة أما الحديث عن الخطاب العدائي الصادر عن طرف محدد فهي لحظة محورية فالأسلوب ليس انفعاليا بل أقرب إلى تشريح هادئ لظاهرة تؤذي المنظومة الجماعية الامتناع عن الرد داخل المحفل ليس قرارا سياسيا فقط بل رسالة أخلاقية لمصر بأن تختار عدم نقل التوتر إلى مساحة يفترض أن تكون بيتا للحوار وهنا تتشكل ثنائية واضحة بين صوتين صوت يسعى لبناء الثقة وصوت يوظف الاستفزاز وتلك المقارنة غير المباشرة تمنح المتحدث قوة معنوية حتى دون تسمية الطرف الآخر كما أن الانتقال إلى الحديث عن مبدأ عدم الضرر وهو حجر الأساس في القانون الدولي للمياه ليس مجرد مبدأ نظري بل قاعدة عملية تترجم في نموذج الهضبة الاستوائية حيث جرى تنفيذ مشروعات بعد توافق ودراسات وخضوع للمعايير المتفق عليها وبهذه الإشارة تقدم مصر درسا عمليا بأن التنمية الممكنة هي تلك التي تبنى على الشفافية لا على الإملاء وعلى الدراسات والأثر لا على القوة وهنا لا تطرح مصر نفسها كمعارضة للتنمية بل كشريك قادر على دعم مشروعات فعلية في أوغندا وتنزانيا وهذا ليس سردا للإنجاز بل محاولة لإعادة صياغة صورة مصر داخل الحوض بوصفها دولة مبادرة لا دولة تعرقل والإشارة إلى رئاسة مرفق المياه الإفريقي يكشف عن سعي مصر لتوسيع الفضاء المؤسسي للتعاون بحيث لا يقتصر على المبادرة وحدها بل يمتد إلى التمويل والتنفيذ.
إن كلمة مصر أمام المؤتمر الأفريقي تجاوزت مستوى السياسة المباشرة لتتحول إلى ما يشبه نداء حضاريا فالوحدة ليست خيارا مفروضا بل نتيجة منطقية لتاريخ وجغرافيا ومصير مشترك وإذا تفرقنا أصبحنا أضعف رسالة جوهرها أن الصراع على النهر لا يليق بنهر صاغ عبر آلاف السنين هوية شعوب وأن مستقبل المنطقة يتوقف على القدرة على بناء عقل جمعي قادر على إدارة المورد الأثمن وهو الثقة لتعد كلمة مصر وثيقة استراتيجية تحاول إعادة توجيه بوصلة العلاقة بين دول حوض النيل نحو أفق أكثر نضجا وأقرب إلى التعاون البناء الذي يتجاوز الحساسيات نحو شراكة تستند إلى احترام القانون والاعتراف المتبادل وإدراك المصير المشترك.