الثلاثاء 15 ابريل 2025

الحلقة الثامنة قصة ١٨٠ يومًا خلف خطوط العدو انتحار أم شهادة

  • 8-3-2017 | 13:21

طباعة

بقلم –  لواء. نصر سالم

ملخص ما نشر

 

فى الحلقات السابقة تعرضنا لأحداث مثيرة بدأت فى الليلة السابقة على بدء الحرب قبل دفع مجموعات الاستطلاع إلى عمق العدو خلف خطوطه، حيث أخذ الملازم فيصل يداعب زملاءه الضباط ببعض العبارات الساخرة، فيعاتبه نصر (بطل القصة) بألا يردد هذه الكلمات «الوقوع فى الأسر» فيرد عليه فيصل، مالك أنت بنا، إنك سوف تحصل على نجمة الشرف والترقية الاستثنائية، ثم هذا النقيب/ عبدالهادى الذى يختتم حديثه التليفونى مع خطيبته بعبارة «مع السلامة ربما لا نرى بعضنا مرة ثانية».

والمدهش والغريب أن يحدث لكل منهم ما توقعوه، فيقع فيصل فى الأسر ويستشهد عبدالهادى وينال نصر النجمة العسكرية والترقية الاستثنائية بعد عودته من تلك المهمة التى بدأ أول بلاغ فيها صباح يوم ٧ أكتوبر ٧٣ عن لواء مدرع إسرائيلى فتقوم قواتنا الجوية بتدمير معظم دباباته وتمنعه من التحرك إلى جبهة القتال فى هذا اليوم، ويتم إعادة رفع كفاءة اللواء المعادى واستكمال دباباته بعد تلك التى تم تدميرها، ويستعد اللواء للتحرك فى اليوم التالى، ولكن هذا اللواء يتم تدمير معظم دباباته نتيجة الفزع الذى أصابها من مرور طائرات مقاتلة فوقها أثناء الاستعداد للتحرك فتندفع الدبابات بأقصى سرعة للانتشار ونزول الحفر فتصطدم ببعضها وتنفجر قبل أن تكتشف أن هذه الطائرات إسرائيلية وليست مصرية.

تمر الأيام يومًا بعد الآخر والمجموعة مستمرة فى متابعة العدو والإبلاغ عنه وطائراتنا تقوم بواجبها فى التعامل معه وتدميره أولًا بأول.. بينما المجموعة تبذل أقصى جهدها فى الاستمرار فى واجبها بأقل معدل استهلاك الطعام الذى لا يزيد نصيب الفرد فيه يوميًا عن ٢٥٠ جرامًا والماء حوالى ٣٠٠سم٣، حتى انتهى ما معهم دون أن يصلهم أى إمداد.. وبعد ما يزيد على عشرين يومًا، وجهتهم القيادة من مصر بالتوجه إلى أحد الآبار على مسافة أكثر من سبعين كيلومترًا قطعوها فى ثلاثة أيام وسط العديد من المواقف الصعبة والمؤلمة على أمل التمتع بالمياه بعد الوصول للبئر، ولكنهم بعد كل ذلك وصلوا إلى البئر ليفاجأوا باستحالة إخراج الماء من البئر.

بعد أن فقدنا الأمل فى استخراج الماء، أصابتنا حالة من اليأس جعلتنا نستلقى على الأرض فى حالة أقرب إلى الإغماء، ولكن قلوبنا المعلقة بالسماء، مازالت ترى أن الذى أتى بنا إلى هذا المكان بهذه الدقة التى لا يصدقها عقل.. حتمًا لن يضيعنا.. وبدأت أردد هذه الكلمات على مسمع من عادل والجندى. وأروى لهما أنى لم أكن أصدق أن نصل إلى البئر مباشرة بهذا الشكل.. وأقصى ماكنت أحلم به أن أبدأ فى البحث عن البئر بعد الوصول إلى الطريق الموجود غرب البئر مباشرة وتلاقيه مع الطريق الواصل من الشرق إلى داخل المضيق. كنقطة مراجعة واتجاه طوارئ.

حتمًا.. إن الله لن يضيعنا وأخرجت الزمزمية التى مازلنا نحتفظ فيها بقطرات من الماء وأخذت أعطى كل منهما مكيالًا ثم مكيالًا بغطاء الزمزمية وأنا معهم، حتى فرغت القطرات..

لم تكن حالتنا البدنية تسمح لنا بتجهيز أى حفر للاختفاء فيها, فأمرتهما بأن يأخذ كل منهما ساترًا تحت إحدى الشجيرات الصغيرة الموجودة حولنا، ونحاول الاختفاء قدر الإمكان، لأن الطريق الأسفلت لا يبعد عن مكاننا أكثر من عشرة أمتار. وتستطيع أى دورية متحركه عليه أن ترانا.. وهكذا ابتعدنا قليلًا عن البئر واختفينا بقدر استطاعتنا قبل أن تشرق الشمس، بعد أن أعددنا الجهاز اللاسلكى للاتصال بفرد الهوائى ودفنه تحت التراب لكى لا يكتشفه أحد من المارة. ومع شروق الشمس أبصرت شيئًا لامعًا بجوار البئر فأخرجت نظارة الميدان، وبدأت أحدق فيه من مكانى توفيرًا للجهد الذى يتناقص مع كل حركة.. فإذا بهذا الشئ, عبارة عن نصف جركن بلاستيك أسود مقطوع شطرين وبه بعض الماء, فلم أصدق عينى.. وأيضًا لم أرد أن أنبه عادل أو الجندى كى لا يصابا بالإحباط مرة أخرى إذا اكتشفا أنه خيال, فتحركت بكل حذر حتى وصلت إليه.. وتأكدت أنه ماء ولكن بكميه صغيرة يملؤها العفن, فقمت على الفور بإفراغها فى الزمزامية التى معى فملأتها إلا قليلا.. وكدت أرقص فرحا وأنا أعدو نحوهما مناديا.. «وجدت الماء» فالتفا حولى غير مصدقين.. فأعطيت الزمزامية للجندى وقلت له اشرب واحمد الله.. فقبض عليها بكلتا يديه ووضعها على فمه.. وقبل أن أجذبها من يده خشية أن يجور علينا.. وجدته يبعدها عن فمه فى حدة وجميع ملامح وجهه تنقبض فى قشعريرة غريبة.. يا ساتر.. ما هذا؟!

فأخذت الزمزمية من يديه وقربتها من فمى بحرص وارتشفت بعض القطرات.

فما كان منى إلا أن فعلت مثل ما فعل الجندى, ثم كرر عادل نفس الفعل مثلنا.. ثم قال «عديم البخت يلاقى العظم فى الكرشة» هكذا كانت تقول جدتى, ورد عليه الجندى قائلا بل جدتى أجدع من جدتك. فقد كانت تضع الشيح فى الماء الذى تشرب منه الكتاكيت الصغيرة لكى لا تشرب كثيرًا من الماء فتصاب بالإسهال وتموت. وعلقت بدورى قائلا «ظمآن والكأس فى يديه»!!

ولكنى حاولت أن أشرب أمامهم من باب (دواعى إنقاذ الحياة)، وفى كل مرة كانت تنزل إلى فمى قطرة من الماء.. أكاد أقسم أنى لن أشكو من العطش مرة ثانية. وحاولنا إقناع أنفسنا أن هذه حكمة إلهية، حتى نقاوم العطش.. أعددنا إشارة لاسلكية نوضح فيها الموقف الذى حدث لنا والمكان الذى نحن فيه. وأرسلناها (بالمورس) البرق اللاسلكى – فجاءنا الرد أن نحول الجهاز على وضع

الكلام.. ووجدت المقدم/ صلاح ينادينى بكلماته المملوءة بالحماس والتشجيع.. ثم يقول لى «إن المجموعة التى كانت معك فى الهليوكبتر وتم إبرارها بعدك, قد ضلت طريقها ولا نعرف مكانها, ومطلوب منك البحث عنها وإنقاذها، لأنها فى وضع سيىء جدًا. كيف أبحث عنها وأنا لا أعرف مكانها؟ تستطيع أن تبحث فى مربع ١٠ كم x١٠ ١٠ كيلو.

كما إنها قريبة من المنطقة التى أنت فيها. حدد لى إحداثيتها وأنا أصل إليها ـ المجموعة لا تعرف أين مكانها، لأنها خرجت خارج الخريطة التى معها ونحن نتوقع مكانها بالتقريب.

ـ لا يوجد طعام ولا ماء معنا فكيف نبحث ونحن فى هذه الحاله أرسل إلى طعامًا وماءً وأنا أبحث عنها.

ـ لن أرسل لك شيئًا حتى تعثر على المجموعة التائهة.. انتهى.

بعد انتهاء المكالمة لم يكن أمامى سوى تقدير الوقت واتخاذ قرار البحث عن المجموعة المفقودة.. وأخذت أحفز كلًا من الجندى وعادل قائلا «إنهم زملاؤنا وإخوتنا ولابد أن حالهم أسوأ بكثير من حالنا».. وعسى أن يكرمنا الله وإياهم.. علينا أن نحاول.. وسوف نحتفظ لهم بنصف كمية الماء التى معنا لعلنا نلقاهم ونلقى الله جميعًا ونحن على قلب رجل واحد.

كانت المنطقة حولنا خالية تقريبًا من القوات, التحركات على الطريق القريب منا قليلة, فأخذت قرارى بالتحرك قبل آخر ضوء بساعتين على الأقل, مستغلا الشجيرات الصغيرة المنتشرة فى الوادى حولى, فى الإخفاء أثناء التحرك, وقطعنا حوالى خمسة كيلومترات فى كل اتجاه من الاتجاهات الأربع وجعلنا البئر هو مركز المربع الذى نبحث فيه على أمل أن يأتى أحد من البدو إلى البئر ليحصل على الماء فنشرب معه ونحصل على الماء.

مر هذا اليوم وبعده الليلة ولم نعثر على أى أثر للمجموعة الضالة، وفى صباح اليوم التالى اتصلنا بالقيادة وأبلغناها بالموقف.. مكررا طلبى بضرورة إرسال ماء وطعام بأى وسيلة، كما وعدونا من قبل.

وجاء المقدم/ صلاح للمرة الثانية ودار بيننا الحوار التالى:

- لقد حاولت إرسال الطعام والماء لكم فى الليلة الماضية ولكن الهليوكبتر أصيبت ولم تصل وكان فيها قائد سريتك. وسوف أقوم بإرسال هليوكبتر أخرى لكم خلال ساعات.

- ما هى إشارة التعارف معها وكيف تصل إلينا وهليوكبترات العدو تملأ المكان.

- المهم أن تصل إلى المجموعة التائهة, بأسرع ما يمكن أن موقفها يزداد سوءًا.

- إننا فى أرض العدو ولسنا فى شوارع القاهرة أعطنى أى علامة تساعدنى فى الوصول إليها – أو أبلغنى تردد جهازها اللاسلكى وأنا أتصل بهم.

ورغم أن هذا خطأ كبير, أن تعرف إحدى المجموعات تردد المجموعة الأخرى، إلا أن القيادة لم يكن أمامها حل آخر غير هذا, فأخبرونا أنهم سوف يفعلون ذلك بعد أن تتصل بهم المجموعة مرة أخرى، لأنها تغير ترددها كل مرة. وكانت آخر كلمات المقدم/ صلاح لى «نصر لا تترك إخوتك.. إنهم يموتون.. أنا أثق أنك لن تتركهم مهما حدث».

لم تكن عيناى تملك دمعة أذرفها بعد هذه العبارة التى اعتصرت قلبى.. فقد جفت كل السوائل فى جسدى وأنا أرى صورتى فى وجهى عادل والجندى الذين تحولا إلى جماجم غائرة فيها العيون, والشفاه جافة متصلبة ونكاد نسمع بعضنا البعض بصعوبة. وقد استلقى كل منا تحت إحدى الشجيرات أو الكودى (جمع كودية) ولف جسمه حولها؛ إمعانا فى إخفاء أنفسنا – فى انتظار – توقيت الاتصال آخر النهار، حتى نعرف تردد المجموعة الأخرى ونحقق الاتصال بها ونحاول التعرف على مكانها والوصول إليه.

لم يكن مطلبنا فى هذه اللحظات إلا شربة ماء وأى قدر من الطعام ولا يهم نوعه، حتى لو كان ميتة لحيوان أو إنسان.. أى شىء ينزل فى بطوننا التى لم يدخلها طعام منذ خمسة أيام.. وفى هذه الأثناء كنت أنبش بعود من العشب فى الرمال تحت الشجيرة التى ألف جسدى حولها.. فإذا بى أعثر على دودة ففرحت أيما فرح وأخذت أجد فى النبش لعلى أعثر على كمية من الدود أو حتى دودة أخرى وأنا أمنى نفسى بوجبة من البروتين الطازج.. ولكن خاب ظنى ولم أعثر على سواها. وهى لا يزيد وزنها على جرامين أو ثلاثة.. فأشفقت عليها ولسان حالى يقول إنها لا تشفى ولا تغنى.. ولا حتى أستطيع hبتلاعها إذا أردت ذلك فأبعدتها بكل رفق وأنا أقول لها «اذهبى فلا أدرى أينا أطول عمرا من الآخر».

من وقت لآخر كانت تمر على الطريق الموجودة بجوارنا إحدى السيارات أو الدوريات الراكبة التى كنا نتوقع اكتشافها لنا فى كل لحظة.

فاقتربت من عادل والجندى وقلت لهما «إن العدو قد يكتشفنا فى أى لحظة وإذا وقعنا فى الأسر فلن نرى منه إلا العذاب ثم القتل. فهل أنتما تقبلان هذا»؟.

فرد كليهما:

- طبعا لا.

- إذا ليس أمامنا إلا القتال حتى الشهادة.

- نحن لا نستطيع أن نضغط على التتك ولا التعامل مع العدو وسوف نقع فى الأسر وعليك أن تقتلنا قبل الأسر.

- كيف تقولان هذا.. إننى حتى لا أستطيع ذلك. إننى مثلكما لا أستطيع استعمال بندقيتى.

- إذا ما العمل؟

- نقوم بتفجير القنابل التى معنا فى العدو.

- ليس لدينا القوة على نزع تيلة الأمان من القنبلة، حتى تنفجر وسوف نقع فى الأسر.

- فى هذه الحالة نقوم نحن الثلاثة بجذب التيلة معا، حتى تنفجر القنبلة فينا قبل أن نقع فى الأسر.

بعد أن اتفقنا على ذلك قمت بشبك تيلة الأمان لقنبلة يدوية فى أحد الخطاطيف الحديدية الموجودة فى شدتى التى ألبسها على كتفى وصدرى.. ولففنا أجسادنا حول بعضنا البعض على استعداد لجذب القنبلة بأيدينا نحن الثلاثة فى نفس اللحظة التى يكتشفنا فيها العدو. وجودنا..

وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة

 

    أخبار الساعة