الإثنين 15 ديسمبر 2025

مقالات

بين الرومانسية.. والشجن

  • 14-12-2025 | 09:37
طباعة

يأتي الشتاء بأجوائه الممطرة وطقسه البارد ليعزف على وتر العاطفة في وجدان أمة مفعمة بالرومانسية والشجن، حيث حاجة القلوب إلى الدفء المفقود أحيانًا والمنشود دائمًا، فيزداد عطش الروح لأغنيات تحاكي هذا الاحتياج وتعبر عنه بمفردات وألحان "رومانتيكية" تمنحها الدفء العاطفي أو “شجية” تحركها نحو ذكريات تروي حنينها لماضٍ جميل أو تواسيها على فقدٍ قديم، أو تفرد لها حضنًا تقوى به على هذا وذاك، وتظل تذكره كلما عاد الشتاء.

ورغم أن أول المفردات التي تحرك ذكريات طفولتنا مع الشتاء وبرد الشتاء هي مفردات الشاعر الكبير فؤاد حداد:

الدنيا برد .. الدنيا برد
وعم خليل بيسقي الورد

التي غناها ولحنها الفنان النوبي أحمد منيب فيما بعد عام ١٩٨٤، إلا أن صوت فيروز بمفردات وألحان الأخوين رحباني كان أشهر الأغاني التي فردت هذا الحضن في أغنيات مثل "رجعت الشتوية" التي غنتها عام ١٩٧٣ لتداعب رومانسيتنا بلغة عذبة لا تخلو من شجن رغم لحنها المبهج، وقد بدت بهجته مع صوت فيروز من الجملة الأولى وآهات السلطنة الراقصة المتقطعة:

رجعت الشتوية.. ضل افتكر فيّ.. رجعت الشتوية
يا حبيبي الهوى مشاوير.. قصص الهوى مثل العصافير
لا تحزن يا حبيبي إن طارت العصافير
وغنّية منسية.. ع دراج السهرية.. رجعت الشتوية
يا حبيبي الهوى غلاب.. عجل وتعال السنة ورا الباب
ولو فيّ يا عينيه بخبيبك بعينيي.. رجعت الشتوية
ومن قبلها كانت أغنية "حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي" التي غنتها عام ١٩٧٠، وخاصة المقطع الذي يقول:
بإيام البرد بإيام الشتي
والرصيف بحيرة والشارع غريق
بتيجي هاك البنت من بيتها العتيق
ويقولا انطريني تنطر ع الطريق
ويروح وينساها وتدبل بالشتي
ويأبى الأخوان رحباني أن يظلمَا الحبيب فيكشفا سريعًا أنها الأقدار حين تكمل فيروز:
مرقت الغريبة عطتني رسالة.. كتبها حبيبي بالدمع الحزين
فتحت الرسالة حروفها ضايعين.. مرقت الأيام وغربتنا سنين
وحروف الرسالة محيها الشتي
حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي.. نطرتك بالصيف نطرتك بالشتي
وعيونك الصيف وعيوني الشتي.. ملقانا يا حبيبي خلف الصيف وخلف الشتي

وكان الرحابنة يروق لهم البعد عن الصياغة أحادية الدلالة ليتسع الحضن لمن اتهمت حبيبها بنسيانها ولمن اتهمت الأيام والسنين، باستخدام كلمات تموج بين هذه الحالة وتلك، وليظل الشتاء قادرًا على استدعاء كل هذه الذكريات.

وعلى نفس هذا النهج الذكي جاءت أغنية "حبوا بعضن تركوا بعضن" لحن زياد رحباني عام ١٩٧٥:

بيقولوا الحب بيقتل الوقت
بيقولوا الوقت بيقتل الحب
يا حبيبي تعا تنروح قبل الوقت وقبل الحب
بديت القصة تحت الشتي
بأول شتي حبّوا بعضن
وخلصت القصة بتاني شتي
تحت الشتي تركوا بعضن
حبوا بعضن.. تركوا بعضن
يا حبيبي شو نفع البكي،
شو إله معنى بعد الحكي؟
ما زال قصص كبيرة.. وليالي سهر وغيره،
بتخلص بكلمة صغيرة:
حبّوا بعضهن.. تركوا بعضهن.
ثم تأتي رائعة أخرى لفيروز وزياد الرحباني "قديش كان في ناس" التي غنتها عام ١٩٧٧:
قديش كان في ناس.. عَ المفرق تنطر ناس
وتشتي الدنيا ويحملوا شمسية
وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني.

ورغم مسحة الحزن في موسيقى زياد الرحباني وكلماته التي استكملها عمه منصور الرحباني، جاءت سلطنة فيروز بأداء أنثوي مبتسم لتفتن عن حالات مغايرة قادمة اعتاد عليها الرحابنة، وسرعان ما كشفت عن غزل للحبيب في كلمات مثل:

وأنا عيني ع الحلي.. والحلي ع الطرقات
غنّيله غنيات.. وهو بحاله مشغول
نطرته مواعيد الأرض وما حدا نطرني.
ثم تنتهي إلى أمل وتفاؤل وتقول:
بُكره لابد السما لتشتيلي ع الباب
بشمسية وأحباب..
ياخدوني لشي نهار
واللي ذكر كل الناس بالآخر ذكرني.

وهكذا الرحابنة هم أهل رحابة في المعاني التي تتماس مع أكثر من حالة في الأغنية الواحدة مهما قلت مفرداتها أو كثرت.

ومنذ السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ظلت أغاني فيروز هي الحضن الذي نستدعيه مع كل شتاء بلا منازع، حتى جاء علي الحجار في عام ١٩٨٩ وقدم الأغنية الأيقونة "لما الشتا يدق البيبان" كلمات إبراهيم عبد الفتاح ولحن أحمد الحجار وتوزيع موسيقي لياسر عبد الرحمن، لتفرد حضناً لا يقل دفئاً ولا براحاً ولا جمالاً عن حضن الرحابنة، نستدعي معها وبها الذكريات.. "لما الشتا يدق البيبان":

لما الشتا يدق البيبان.. لما تناديني الذكريات
لما المطر يغسل شوارعنا القديمة والحارات
ألقاني جايلك، فوق شفايفي بسمتي.. كل الدروب التايهة تسبق خطوتي
كل الليالي اللي في قمرها قلبي بات
مش جاي ألومك ع اللي فات.. ولا جاي أصحي الذكريات
لكني باحتاجلك ساعات.. لما الشتا يدق البيبان.

وفي نفس العام انضمت أغنية أخرى للقائمة رغم ما فيها من ألم بصوت "الدانتيلا" حنان ماضي، كلمات إبراهيم عبد الفتاح أيضًا، ولحن وتوزيع ياسر عبد الرحمن، وهي:

عصفور في ليل المطر في قلبه جمرة نار
يصرخ يقول يا بشر.. بحلم يجيلي نهار
يا أحلامي الكبيرة.. ما بين أمل وحيرة
سرق الزمان صوتي قبل الغنوة الأخيرة.

ودخلت أغنية "مهما الشتا قسى" التي قدمها الفنان مدحت صالح في نفس العام ١٩٨٩ من كلمات وائل هلال ولحن فاروق الشرنوبي لتعزف على نفس الوتر وتستدعي الذكريات لكل من انتصر لحبه وبحبه.. "مهما الشتا قسى":

مهما الشتا قسى.. الريح بتتنسي
ويدوم صوت البلابل.. لما تلاقي السنابل
ولا غصن في قلبي دابل.. ما دمتي بتخلصي.

وتدخل التسعينيات لينضم وائل كفوري للقائمة بأغنية "ليل ورعد وبرد وريح" التي قدمها في أول ألبوم له من كلمات نزار فرنسيس ولحن سمير صفير:

ليل ورعد وبرد وريح.. دنيا برّا مجنونة
ثلج مكوم ما بيزيح.. صرتي عندي مسجونة
خليكي بها الليل مليح.. نامي مرة بعيوني
نصّبتِلك جوز مراجيح بين جفوني وجفوني.

ثم تأتي قصيدة "حبيبتي والمطر" للفنان كاظم الساهر بصورها الشعرية الساحرة التي أبدعها نزار قباني في نهاية التسعينيات:

أخاف أن تمطر الدنيا ولستِ معي
فمنذ رحلتِ وعندي عقدة المطر
كان الشتاء يغطيني بمعطفه
فلا أفكر في برد ولا ضجر.
حتى يقول في نهاية القصيدة مع لحن رشيق:
أنا أحبكِ يا من تسكنين دمي
إن كنت في الصين أو إن كنت في القمر
ففيك شيء من المجهول أدخله
وفيك شيء من التاريخ والقدر.

وفي ديسمبر ٢٠٠٨ انضمت أغنية ميريام فارس "يا أيام الشتا" كلمات أحمد فودة ولحن الراحل المبدع محمد رحيم في أول ألحانه باللهجة اللبنانية بصياغة شديدة النعومة يكسوها الفقد والشجن، وأداء أشبه "بالطبطبة"، ضمنت لها مكانها في كل قلب يشعر بالفقد والوحشة:
يا أيام الشتا.. هايدي أول سنة
لحالي بسهر لياليه
يا أيام الشتا.. غايب صار له سنة
من هاديك الشتوية.

ويأبى عام ٢٠٠٩ أن يبدأ قبل أن تأتي المطربة إليسا بأحد أشهر أغاني الشتاء في الربع قرن الأخير "كنا في أواخر الشتا" للشاعر نادر عبد الله والملحن تامر علي وتقول:

كنا في أواخر الشتا قبل اللي فات.. زي اليومين دول عشنا مع بعض حكايات
أنا كنت لما أحب أتونس معاه.. أنا كنت باخد بعضي واروحله من سكات
الناس في عز البرد يجروا ويستخبّوا.. وأنا كنت باجري وأخبّي نفسي أوام في قلبه.
وتستمر الأغنية في السرد إلى أن تأتي الذكرى الحزينة فتقول:
على سهوة ليه الدنيا بعد ما عشمتنا.. وعيشتنا شوية رجعت موتتنا
والدنيا من يوميها يا قلبي عودتنا.. لما بتدي حاجات أوام تاخد حاجات.

وبعدها بأربعة أعوام جاءت أغنية دنيا سمير غانم "قصة شتا" كلمات أمير طعيمة ولحن هشام جمال، التي غنتها في أول ألبوم لها عام ٢٠١٣، لتذهب إلى نفس الشجن وتستدعي نفس الفقد بأداء يكسوه الأسى رغم دفء صوت دنيا، في سرد يحاكي حالتها في قصة فتاة صدمتها النهايات غير المبررة:

نزلت من البيت في المطر وما همّهاش برد الشتا
بقاله كام يوم مختفي مش عارفة ليه بيعمل كده
نزلت وراحت على مكان كانوا فيه تملي بيسهروا
أول ما شافها في سلامه بان إن مشاعره اتغيروا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة