الأحد 6 اكتوبر 2024

الأزهر حين يجدد حضوره وريادته

8-3-2017 | 13:55

بقلم –  أحمد بان

من بين المشاهد المؤلمة التى تعيشها أمتنا فى تلك الحقبة البائسة التى تفجرت فيها الصراعات من كل لون فى منطقتنا، أطلت علينا كلمة فضيلة الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، والتى ألقاها فى مؤتمر الحرية والمواطنة الذى نظمه الأزهر الشريف بالتعاون مع «مجلس حكماء المسلمين» تلك المؤسسة التى دشنتها دولة الإمارات العربية الشقيقة، فى سياق انفعالها بما تعيشه الأمة من هموم ورغبتها أن تتداعى خبرات الأمة فى مواجهة تلك الأخطار والتصدى لها.

أسعدتنى كلمة الأمام الأكبر والتى كانت موفقة للغاية وأبرزت فى عيون الكافة ماذا تستطيع أن تفعله تلك المؤسسة العريقة، حين يجلس على كرسى الإمام الأكبر رجل يملك تلك المؤهلات ويدرك كل تلك المتغيرات فى مصر وفى الإقليم وفى العالم، وعلى اتصال بحقائق دينه وواقع عصره معا.

جاءت كلمة الإمام لتؤكد من جديد وعى مؤسسة الأزهر بما يحاك لهذ ا الدين، من مؤامرات تستهدف النيل من حقائقه وتشويه تعاليمه ومحاولة تحويله فى الوعى العام إلى أداة تعبئة للحروب والصراع، لم يقف الإمام الأكبر فى مربع الدفاع يتلقى اللكمات كالعادة، لكنه وقف ليفند ببراعة ووعى كل تلك الاتهامات ويشخص حقيقة الداء.

يعى الإمام الأكبر استدراج بعض شعوب الأمة إلى ما يسمى بالصراع الدينى والمذهبى، مؤكدا أن إشتعال كل تلك الحروب فى منطقتنا العربية والإسلامية، يبدو دون سبب معقول أو مبرر منطقى واحد يتقبله إنسان القرن الواحد والعشرين، كما لو كان يشير إلى أننا نستعيد إنتاج مأساة الحروب والصراعات التى اشتعلت فى العالم الغربى قبل عقود، وخرج منها بخبرات التعايش السلمى وبناء المؤسسات الدولية التى ترفع شعارات العدل والحرية والسلام.

حاول الغرب أن يؤكد فى وعينا أنه صاحب الفضل فى إختراع مبدأ المواطنة، الذى هو أساس الدولة الوطنية الحديثة بعد قرون من الصراعات الدينية، حتى بين أصحاب الدين الواحد، تأملوا صراعات الكاثوليك مع البروتستانت، وعداء فرسان المعبد مثلا للأرثوذكس وغيرها من صور الحروب الدينية والمذهبية التى سجلها تاريخ الغرب، فى وقت لم يكن يعرف فكرة المواطنة أو الديمقراطية أو إزالة الفروق والتمييز بين البشر على أساس دينى أو مذهبى أو اجتماعى.

كان الإسلام أسبق فى تأسيس دولة المواطنة كمبدأ دستورى راسخ، أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعلن دولته فى المدينة والتى ساوى فيها بين الجميع مسلمين ومسيحيين ويهود، لايخدعنا التاريخ فيمن أشعل تلك الحروب الصليببة تحت دعاوى دينية جيشت لها الجيوش وغرر فيها بالبسطاء، لم يبع المسلمون يوما صكوك الغفران لأحد كما فعل بعض القساوسة فى عصور الظلام، التى عاشتها أوربا ولم ينقذها منها سوى أنوار الإسلام التى أتت من الأندلس المسلمة.

حاول شيخ الأزهر أن يحرر الموقف الصحيح من فرية اتهام الإسلام بأنه منتج الإرهاب الوحيد والحصرى، فى تنكر واضح لحقائق الدين وحقائق التاريخ أيضا التى تقول أن الإسلام لم يكن صاحب الكلمة فى الحروب العالمية التى أشعلتها أوربا وسقط فيها ملايين البشر، سواء فى الحرب العالمية الأولى أو الثانية التى فاق ضحاياها عشرات الملايين من البشر.

لم يكن الإسلام حاضرا فى اعتداءات مايكل براين هذا المواطن الأمريكى الذى قام بتفجير عيادات الإجهاض تحت دعاوى دينية، أو تفجير تيموثى مالفن لمبنى حكومى فى أوكلاهوما أو ديفيد كورش والأحداث التى فجرها فى ولاية تكساس، أو حتى الصراع الدينى فى أيرلندا الشمالية أو حتى تورط بعض المؤسسات الدينية فى إبادة واغتصاب ربع مليون مسلم ومسلمة فى البوسنة والهرسك، فى اختبار كاشف لحقيقة تسامح أوربا مع جيب مسلم صغير وسط قارة مسيحية.

التاريخ هنا يؤكد من الذى تورط بالفعل فى تلك الجرائم التى تدعى الصلة بكل دين والأديان منها براء، كما أكد الإمام الذى يؤكد أنه لاتكفى أبدا تبرئة الأديان من الإرهاب، بل ينبغى إزالة التوتر بين رؤساء الأديان وعلمائها، وهو بالطبع لايعنى تلك المؤتمرات الباردة للحوار بين الأديان، التى شارك الأزهر فيها بهمة منذ إطلاقها لكنها لم تصل بعد إلى محطات مهمة.

الشيخ هنا يلفت الانتباه إلى أن تلك الحوادث التى حملت بصمات مسيحيين لم يكن من بينهم مسلمون لم توجه فيها الاتهامات للمسيحية، بل استطاع الغرب أن يفصل بوضوح بين الدين والإرهاب وهو مايبدو لونا من ألوان الأزدواجية والكيل بمكيالين، فعندما دخل المستوطن الصهوينى الحرم الإبراهيمى وأطلق النار على المصلين فى صلاة الفجر لم يتحدث أحد عن الإرهاب اليهودى المتواصل فى كل فلسطين المحتلة.

رسالة كل الأديان هى التسامح والسلام والتعايش وقبول الآخر وحرية الاعتقاد، وكل المعانى التى تنص عليها دساتير الدول الوطنية لكن هذا المبدأ الدستورى نحن كمسلمين أصحاب الريادة الحقيقية فيه، وإذا كان الغرب لم يهتد لهذا المبدأ الدستورى إلا بعد كلفة باهظة من الحروب والصراعات، فقد كان مبدأ أو دولة للمسلمين فى المدينة فى دستور المدينة الذى كان أقدم من كل دساتير العالم فى النص على هذا المبدأ، وهو أبعد كثيرا من وثيقة «الماجناكارتا» الأحدث كثيرا كوثيقة دستورية.

دعوة الأزهر للحوار بين أبناء الدين الواحد على تعدد مذاهبهم والالتفات إلى معانى الدولة الوطنية الحديثة، وتأكيد انسجامها مع قيم الدين بالشكل الذى ينهى مصطلحات لم يعد من المقبول أن تبقى معنا كمصطلح الأقلية والأقليات وما يرتبط بها من مفاهيم التمييز والتفرقة بين المواطنين، الذين يعيشون تحت مظلة المواطنة الكاملة للجميع متمتعين بحرية التدين والمعتقد.

يطلق الأزهر بشجاعة تصوره لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة التى يراها محققة لمعانى وحقائق الأديان، دون أن يقع فى وهم الخلافة تلك الراية المزعومة التى رفعتها التيارات المتطرفة لتخدع بها عيون وعقول الكثير من البسطاء، مؤكدا أن كل المبادئ الدستورية التى حققت التعايش والاندماج تضمنها الإسلام وحث عليها.

الأزهر يؤكد مرجعيته وريادته بهذا الخطاب الشجاع الذى لم يخضع لدخان الإعلام الكثيف، الذى يحاول وصم الإسلام بالإرهاب والتطرف، مستشهدا بحقائق الدين وحقائق الواقع معا ويضع روشتة العلاج التى تبدأ بالحوار والاتفاق بين أبناء الدين الواحد على ملامح واحدة للدولة الوطنية وتحرير صحيح لعلاقة الدين بالدولة، وهو يدق ناقوس الخطر للتنبيه على حماية الدين والتصورات الصحيحة لها مما يجرى بدأب من قبل قوى تريد إنهاء دور الدين فى المجتمعات فى مواجهة دعاوى الإلحاد واللادين.

بقى أن يقود شيخ الأزهر حملته المظفرة لتخليص المؤسسة من بقايا الأفكار التى زرعتها تيارات التطرف، ويقدم رؤية تجديدية من داخل الأزهر يستعين فيها بالمخلصين حتى من غير أبناء الأزهر، ممن يدركون أهميته وقدره ومكانته لتعود المؤسسة مؤسسة دينية مستقلة عن التيارات والحكومات، وجسرا للتعايش والحوار بين أبناء الدين الواحد وغيره من الأديان فى التعاون على حماية القيم الإنسانية المشتركة، التى تعزز السلم العالمى والتعايش والتعاون على قواعد عادلة.

هذا الخطاب الذى انتصر لمعانى المواطنة والحرية أتمنى أن تتسع ساحاته، ليصبح الأزهر كما كان عبر تاريخه رائدا للوسطية والاعتدال وساحة للحوار بين كل المذاهب، بتنوع يطلق التعايش والحوار.. وليس حدية الصراع التى أنتجت داعش وأخواتها فى واقعنا.