يودّع قطاع غزة عام 2025 على وقع مستقبل يلفّه الغموض، في ظل الخطة الأمريكية التي نجحت في كبح حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة لعامين، لكنها تعثّرت عند عتبة التنفيذ الكامل بفعل التعنت الإسرائيلي، وبينما يبقى مصير الانسحاب الإسرائيلي الكامل مجهولًا، تتأجل آمال إعادة الإعمار لتظل رهينة التجاذبات السياسية والميدانية.
وفي قلب هذه المعادلة، يبرز تنفيذ جميع بنود اتفاق وقف إطلاق النار، وإطلاق مسار إعادة الإعمار وفق الرؤية المصرية المدعومة إقليميًا ودوليًا، كأكثر الملفات إلحاحًا على أجندة القطاع.
وهذه الملفات يعمل الوسطاء، من جانبهم، على تسريع إنجازها، في محاولة لكسر دائرة الانتظار، وفتح نافذة أمل أمام غزة المنهكة مع نهاية عامٍ ثقيل.
وفي غضون ذلك، يكشف خبراء عن رؤيتهم للمرحلة المقبلة لقطاع غزة، في ظل ترقّب لاستكمال بنود الخطة الأمريكية، التي ما يزال قدر كبير من تفاصيلها مبهمًا، رغم اتضاح بعض ملامحها.
مصير الانسحاب
ويستعد قطاع غزة لدخول عام 2026 وسط حالة من الضبابية تغطي العديد من الملفات الشائكة، في ظل ما يصفه الخبير السياسي والاستراتيجي الدكتور مختار غباشي بـ«الخدعة الكبرى التي حصلت في الخطة الأمريكية».
وأكد غباشي، في حديث لـ«دار الهلال»، أن مصير استكمال إسرائيل انسحابها من القطاع ما يزال مبهمًا، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة تتحدث عن ثلاث سنوات لاستنفاد المرحلتين الثانية والثالثة من الخطة، وهو ما يصفه بـ«الخطير».
وأضاف أن الجميع كان يعتقد أن الخطة الأمريكية وُضعت لتُستنفد بالكامل في وقت محدد، إلا أن المكر الأمريكي والدهاء الإسرائيلي شكّلا معًا «خدعة كبيرة» لم تحدث في القضية منذ عام 1948، حسب قوله.
وشدد على أن الخطة صُممت لاستنزاف ما لدى الطرف الآخر (المقاومة) أولًا، فيما تُرك القطاع لإسرائيل لتتصرف فيه بحرية.
بيد أن الدكتور أحمد العناني، خبير العلاقات الدولية، يعتقد أن هناك ضغوطًا أمريكية حقيقية تُمارَس حاليًا على الحكومة الإسرائيلية من أجل الانتقال إلى المرحلة الثانية.
أما الدكتور نزار نزال، المحلل السياسي الفلسطيني، فقال إن انسحاب إسرائيل من قطاع غزة يظلّ مرهونًا بالانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، غير أنه يطرح تساؤلًا جوهريًا: هذه الجغرافيا التي ستنسحب منها إسرائيل، من سيتولى السيطرة عليها؟.
ويجيب نزال، في حديثه لـ«دار الهلال»، عن هذا التساؤل قائلًا: «بالطبع لن يكون الجانب الفلسطيني، لا السلطة ولا المقاومة، بل ستتولاها قوة الاستقرار الدولية».
غير أنه يطرح تساؤلًا آخر بقوله: كيف سيكون الانسحاب الإسرائيلي؟، موضحًا أن هناك مساحة سيظل جيش الاحتلال يتحرك فيها كيفما يشاء، إذ لن ينسحب إلى الحدود التي كانت قائمة قبل السابع من أكتوبر 2023.
وأوضح أن جيش الاحتلال سيحتفظ لنفسه بمنطقة عازلة، مع انتشار عناصره فيها إلى جانب قوات الاستقرار الدولية المزمع نشرها.
وفي السياق ذاته، قال الدكتور أحمد العناني، في حديث لـ«دار الهلال»، إن مستقبل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة ما زال مرتبطًا بمدى نجاح الانتقال إلى المرحلة الثانية من الخطة الأمريكية.
وأوضح العناني أن بعض الملفات العالقة، وعلى رأسها ما يتعلق برفات جندي إسرائيلي، لن تمثل عائقًا جوهريًا أمام تنفيذ المرحلة الثانية، حتى في أسوأ السيناريوهات، مشيرًا إلى أن الإدارة الأمريكية ترى أن تعطيل هذه المرحلة سيؤدي إلى ارتباك سياسي إقليمي لا ترغب فيه.
وأضاف أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يصر على إنجاز هذا الملف، في إطار سعيه لتحقيق مكسب سياسي واضح، وتوجيه رسالة داخلية وخارجية مفادها أن إدارته استطاعت الوصول إلى ما عجزت عنه الإدارة الديمقراطية، التي فشلت في إنهاء الحرب رغم أنها عاصرت نحو 15 شهرًا منها.
وأشار خبير العلاقات الدولية إلى أن واشنطن تنظر إلى استقرار قطاع غزة باعتباره مدخلًا مهمًا لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وفتح المجال أمام مشاريع اقتصادية واستثمارية مستقبلية، وهو ما يفسر حجم الضغط الأمريكي المتزايد على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي باتت خياراته السياسية محدودة مقارنة بالسابق.
وأكد العناني أن المرحلة الثانية مرشحة للتنفيذ من حيث المبدأ، إلا أن الخلاف الحقيقي يتمحور حول القضايا الجوهرية، وفي مقدمتها مستقبل حركة حماس ومسألة سلاحها.
وتساءل: هل ستندمج حركة حماس في حكومة فلسطينية جديدة بالشراكة مع السلطة الفلسطينية؟ أم سيتم استبعادها سياسيًا؟ ولمن سيتم تسليم السلاح؟ وهل ستوافق الحركة على تسليمه؟، مشددًا على أن هذه النقاط لا تزال محل تفاوض، ولم تُحسم بشكل واضح حتى الآن.
وأوضح أن بقاء حماس أو خروجها من المشهد سيظل قرارًا تفاوضيًا في المقام الأول، وقد تفرض التسويات حلولًا وسط، سواء عبر دمجها في إطار سياسي جديد، أو إعادة هيكلة دورها داخل القطاع.
إعادة الإعمار
وفيما يخص مسألة إعادة الإعمار، وصف غباشي الوضع بـ«الغامض»، مؤكدًا أن «الأمر أكثر غموضًا مما يبدو، فالحديث الحالي يشير إلى أن الإعمار سيبدأ في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل».
وأشار إلى أن عملية الإعمار قد تستغرق من ثلاث إلى خمس سنوات على الأقل، محذرًا من احتمال أن تكون جزءًا من استراتيجية لإطالة أمد السيطرة الإسرائيلية على القطاع.
وفي الوقت نفسه، تساءل غباشي: «الأموال المخصصة للإعمار من أين ستأتي، وإدارتها غير واضحة. هل ستكون تحت إشراف مجلس السلام أم حكومة التكنوقراط؟».
وجهود الإعمار، كما يرى نزال، تنطوي على قدر كبير من التعقيد، إذ تربط إسرائيل عملية الإعمار بمسألة نزع سلاح حركة «حماس».
وفي حال عدم نزع سلاح الحركة، بحسب المحلل السياسي الفلسطيني، فلن يكون هناك إعمار، وحتى في حال نزع سلاح «حماس»، فإن إسرائيل، على حدّ قوله، تمتلك هدفًا استراتيجيًا مركزيًا يتمثل في إبقاء الأجواء العامة في غزة على حالها من الدمار، وبنية تحتية معدومة للحياة، بما يخلق بيئة طاردة للعيش، ويدفع السكان الفلسطينيين نحو التهجير الناعم، من خلال عدم إعادة البناء والإعمار، وهو ما يبدو جليًا في الرؤية الإسرائيلية تجاه هذا الملف.
وفي المقابل، أكد الدكتور أحمد العناني أن الولايات المتحدة تريد أن يكون التمويل من خلال دول مجلس التعاون الخليجي، وفي المقابل تدعو مصر إلى مؤتمر دولي بمشاركة كافة الدول، تحت إشراف الأمم المتحدة.
واعتبر أن المسار المصري هو الأكثر واقعية، لأنه يمنح الإعمار شرعية دولية، ويضمن إبعاد القطاع عن التجاذبات السياسية، فضلًا عن إلزام إسرائيل بعدم استهداف البنية التحتية مستقبلًا.
ووفقًا للرؤية الأمريكية، كما يقول نزال، فإن ملف إعادة الإعمار يرتبط بضمانات واضحة بعدم العودة مجددًا إلى القتال، تنفيذًا لما تشترطه جهات مانحة، في مقدمتها دول الخليج، قبل المضي قدمًا في تمويل جهود الإعمار.
وتشير الأحاديث المتداولة، كما يضيف، إلى تخصيص نحو 112 مليار دولار، يُفترض تجميعها في صندوق مالي، بهدف إنشاء ما يُسمّى بـ«رافير الشرق الأوسط»، في إطار رؤية أمريكية يغلب عليها الطابع الاقتصادي في مجملها.