شهد المتحف المصري الكبير بداية فصل جديد من مشروع يعد من أعظم مشاريع الترميم في القرن الحادي والعشرين، في لحظة يمكن وصفها بأنها واحدة من أهم لحظات استعادة الوعي بحضارة المصري القديم، حيث تم تثبيت أول قطعة خشبية مُرممة من ألواح مركب الملك خوفو الثانية على هيكلها الخشبي المُعد خصيصًا، إيذانًا ببدء المرحلة الأهم من عملية إعادة تركيب واحدة من أعظم مراكب التاريخ الإنساني.
المشهد لم يكن مجرد تركيب لقطعة خشب، بل إعادة بعث لروح قديمة أحكم الزمن قبضته عليها لآلاف السنين، قبل أن تُستخرج من حفرتها الجنوبية بجوار هرم خوفو، وتدخل رحلة طويلة من الدراسة والترميم الدقيق داخل معامل المتحف، ومع تثبيت هذه القطعة الأولى، بدا الأمر وكأنه نبض حياة يعود مرة أخرى إلى واحد من أهم رموز الحضارة المصرية القديمة.
داخل متحف مراكب خوفو بالمتحف المصري الكبير، تتحول العملية إلى تجربة عرض استثنائية، حيث لا يكتفي الزائر بمشاهدة الأثر في صورته النهائية، بل يعيش تفاصيل رحلته منذ لحظة الاكتشاف، مرورًا بمراحل التوثيق والدراسة البيئية والمعملية، وحتى لحظة إعادة التكوين.
المركب الثانية التي يبلغ طولها نحو 42 مترًا تختلف في تكوينها ووظيفتها عن المركب الأولى المعروضة للجمهور منذ سنوات، فهي تحمل أسرارًا بنائية وإنشائية تعكس براعة المصري القديم في صناعة السفن، وتكشف جانبًا مهمًا من الرمزية الجنائزية للمراكب الملكية التي ارتبطت بفلسفة الرحلة الأبدية عند الفراعنة.
منذ اكتشاف حفرتي المراكب عام 1954، ظل لغز المركب الثانية حبيسًا داخل حفرتها لعقود طويلة حفاظًا على بيئتها الداخلية، ومع بداية المشروع العلمي المصري الياباني في التسعينيات، بدأت واحدة من أكثر العمليات الأثرية تعقيدًا، شملت رفع أحجار ضخمة، واستخراج نحو 1650 قطعة خشبية مرتبة في 13 طبقة، ثم توثيقها ودراستها ومسحها ثلاثي الأبعاد، قبل نقلها بعناية فائقة إلى معامل المتحف المصري الكبير لترميمها.
المركب الثانية التي ظلت حبيسة حفرتها لعقود طويلة حفاظًا عليها من التلف، تتحول اليوم إلى مشروع إحياء متكامل، يجمع بين العلم والتوثيق والتكنولوجيا الحديثة، ويؤكد قدرة فرق العمل المصرية والدولية على التعامل مع واحد من أكثر الاكتشافات الأثرية تعقيدًا وحساسية.
ومع بدء مرحلة التركيب التي يُتوقع أن تستغرق نحو أربع سنوات، يصبح مشروع مركب الملك خوفو الثانية ليس مجرد عمل أثري، بل تجربة علمية وثقافية شاملة، تضيف بعدًا جديدًا لفهم الحضارة المصرية القديمة، وتعزز مكانة المتحف المصري الكبير كواحد من أهم الصروح المتحفية عالميًا.