الجمعة 17 مايو 2024

نجيب الريحاني .. تعرف على صديقته الوحيدة وخزائن أسراره

21-1-2017 | 11:08

كتب: خليل زيدان

من كفاح صاحبه الجوع والتشرد، إلى قمة المجد والتربع على عرش الكوميديا، إلى انتهاء حياته بجرعة زائدة من عقار الكلورمايستين، خلال دقائق معدودة.. تلك كانت باختصار حياة نجيب الريحاني، الملقب بزعيم المسرح و”شارلي شابلن العرب”.

 

صهره الجوع والألم

ولد نجيب الريحاني بحي باب الشعرية يوم 21 يناير 1889 لتاجر خيل وهو إلياس ريحانه، الذي أسرع لرؤية مولوده، وعندما حمله بيديه قال ضاحكا لزوجته: "إنه ولد جميل، لكنه عبوس والأجمل أن ملامح الذكاء تفيض من وجهه، لذلك سنسميه نجيب".

 

 وتمضي السنوات ويكبر نجيب وينزل إلى الشارع ليلعب مع أقرانه الصغار لكن كان يغلب عليه طابع الوقار والاتزان، ودائما كان شارد الذهن، وعند السابعة من عمره التحق بمدرسة "الفرير" بحي "الخرنفش" ونال رضى معلميه لأنه كان جادا مجتهدا، ورغم جديته ووقاره إلا أنه فاجأ الجميع والتحق بفريق التمثيل في المدرسة.

 

 ونال الشهادة الابتدائية ثم الإعدادية، وعند الخامسة عشر أوشك والده على الإفلاس وجاهدت الأسرة ليحصل نجيب على شهادة البكالوريا وهي تعادل الثانوية العامة، وحصل عليها لكن فرحته لم تدم فقد رحل والده وأصبح عائلا لأسرته وساعده مدير مدرسة الفرير في إيجاد وظيفة له ببنك براتب شهري 4 جنيهات ينفقها على أسرته ليقيهم ذل الحاجة.. لكنه كان يشعر أن ذلك ليس ما يحلم به، فكان يتطلع من شباك البنك إلى ميدان العتبة ويشعر بأن عالم الفن والتمثيل هو عالمه رغم يقينه بوجه نظر والدته الرافضة لهذا العالم.

 

 عند عودته من عمله يوميا كان يمر بالمقاهي التي يجلس عليها رواد المسارح ومنها فرقة الشيخ سلامة حجازي، وفرقة أحمد الشامي  ويجعلوها مقرا لهم لمناقشة أعمالهم فانضم إليهم منبهرا بذلك العالم الساحر، ويقرر نجيب أن يهرب من البيت ليلتحق بفرقة أحمد الشامي التي تقرر أن تجوب القرى والمدن لتقديم عروضها وبعد ثلاثة أشهر من الغياب والبحث تصل إليه والدته في طنطا لتجده نائما على البلاط على "ورق جرنال" في حجرة ليس فيها أي أثاث، وتزرف من عيونها الدمع وتطلب منه العودة إلا أنه يقنعها بأنه سيظل في طريقه، وتذهب الأم وتأتي له ببطانية لتقيه من البرد وبعد فترة قصيرة تعلن الفرقة إفلاسها بعد أن جابت النجوع والكفور ولم تلق إقبالا من الجمهور عند إقامة عروضها، ويحمل الريحاني بطانيته ويعود إلى القاهرة .

 

وفي القاهرة يلتحق الريحاني بفرقة جورج أبيض ثم يتركها ليكوّن فرقة مع عزيز عيد واستيفان روستي وآخرين، ويقدمون عروضا من روايات "الفودافيل" على مسرح  الشانزليزيه بالفجالة وتفشل الفرقة، ويذهب مع صديقه استيفان روستي للعمل بمسرح الظل بكازينو "الايبي دي روز" وينتقل من التمثيل خلف الستار إلى تمثيل روايات حية لم تلق رواجا أمام جمهور الملهى الذي كاد صاحبه أن يغلقه بسبب ذلك.

 

 ويجلس الريحاني مع نفسه يستعرض ما مر من حياته من بؤس وشقاء وفشل ذريع يلازمه ويقضي على أحلمه، إلى أن تأتي إليه فكرة تكون سببا للمجد والثراء، فقد فكر في ابتكار شخصية جديدة تجذب الجمهور وهي شخصية "كشكش بك" الثري الريفي الذي يذهب إلى القاهرة لينفق ببذخ على الملاهي والحسناوات ثم لا يجد ثمن تذكرة القطار للعودة إلى بلدته.

 

 ويلجأ الريحاني إلى زوجة صاحب الملهى لتقنعه بأن يقوم الريحاني بتمثيلها على المسرح وبالفعل كان لهذه السيدة الفضل في ظهور شخصية "كشكش بيه".. إذ يوافق صاحب الملهى ويبدأ الريحاني أول عرض وفي نهاية العرض يهرب الريحاني فارا من صرخات الجمهور الذي اعتقد أنها استهجان واستياء من دوره، ولكن يعود مرة أخرى ليحيي الجمهور بعد أن اكتشف أنها صرخات استحسان وإعجاب بشخصية كشكش بك.

 

وتبدأ رحلة النجاح ويعرف المال طريقه لنجيب الريحاني لأول مرة، ثم يقرر أن يبدأ في العمل وحده في فرقة باسمه فأنشأ مسرح "الإيجبسيانه" الذي استنفذ كل ما جمعه من مال وقتها لبيدأ العمل بفرقته الجديدة على هذا المسرح ويقدم روايات عديدة منها "حمار وحلاوة" التي لاقت نجاحا مبهرا ليزداد بريق شخصية "كشكش بك" ويتدفق المال إليه بغير حساب لتتبدل حياة البؤس والشقاء إلى حياة العز والثراء.

 

من المسرح إلى السينما

التحق الريحاني بركب السينما، ذلك العالم الساحر المختلف عن المسرح، وقام ببطولة أول فيلم له وهو "صاحب السعادة كشكش بك "عام 1931 ثم فيلم "حوادث كشكش بك" عام 1933 واستثمر فيهما شخصيته المبتكرة، وبعدهما فيلم "ياقوت" عام 1934 الذي صوره في فرنسا تحت وطأة مالية وتعد تلك الأفلام من النوادر ولم يظهر منها إلا فيلم "ياقوت" الذي تم عرضه فقط في عرض خاص بالمركز الثفافي الفرنسي وهو الفيلم الوحيد الذي مثل فيه معه صديق عمره بديع خيري.

 

 ثم فيلم "بسلامته عايز يتجوز" عام 1936 ولم يجد الريحاني نفسه وقدراته في تلك الأفلام فمن مخزونه عن مشاكل الحياة الاجتماعية بدأ يطرحها بشكل ساخر، وتعمد أن تكون شخصيته الجديدة في أعماله هي المواطن البسيط البائس المطحون، وكان هذا ذكاء منه في فهم احتياجات الجمهور، وأيضاً لأنه تأثر بشخصية مثله الأعلى شارلي شابلن.

 

 وفي عام 1937 يقدم أول أفلامه التي لاقت شهرة واسعة حتى الآن وهو فيلم "سلامة في خير" الذي أخرجه نيازي مصطفى وشارك في تعديل السيناريو الذي كتبه الريحاني وبديع خيري، مما ساعد على نجاح الفيلم ثم قدم الثلاثي رائعة أخرى أكثر نجاحا عام 1941 فيلم "سي عمر"، وبعد خمس سنوات يقدم الريحاني فيلمان اعتبرا من روائع السينما وهما "لعبة الست" و"أحمر شفايف" وفي عام 1947 قدم الفيلم الكوميدي "أبو حلموس".. ويقابل بعدها ليلى مراد عند مصعد عمارة الايموبيليا ويقول لها: عاوز أعمل معاكي فيلم قبل ما أموت.. وتخبر ليلى مراد زوجها أنور وجدي برغبة الأستاذ ليسعد بها أنور ويبدأ التنفيذ لتظهر للدنيا آخر روائع نجيب الريحاني وهو فيلم "غزل البنات" عام 1949.

 

ويرحل الريحاني قبل أن يرى الفيلم الذي جمعه مع كوكبة من نجوم الفن والغناء وكأنه كان يودعهم.. فقد أصيب بمرض التيفود ونقل إلى المستشفى اليوناني بحي العباسية ولفظ أنفاسه، بعد أن تناول عقارا جيئ به من الخارج خصيصا للشفاء من حالته وهو عقار الكلورمايستين.

 

 وأكد شهود عيان وقتها أن الجرعة كانت زائدة وأودت بحياته.. ويكشف بعدها صديق عمره بديع خيري الستار عن حياة الريحاني الذي لم يصاحب أحداً في حياته مثل بديع خيري، وكان مخزن أسراره ويروي بديع أن حياة البؤس التي عاشها الريحاني في حياته هي التي جعلته أقرب لكل طبقات المجتمع وترسبت بداخله وعبر عنها خير تعبير في أعماله ولشعوره بمحن الفقراء، فقد اكتشف بديع أعمالاً خيرية كثيرة كان يقوم بها الريحاني دون أن يخبر أحد، منها رعاية أسرة في الإسكندرية لسنوات طويلة ورواتب شهرية من جيبه الخاص لأسر الزملاء الفنانين الذين رحلوا قبله.. وتأثره الشديد بأستاذه شارلي شابلن والصديقة الوحيدة التي عاشت معه حتى آخر لحظات حياته وهي كلبته "ريتا" التي رعاها كثيرا وكان يطعمها ويخفف عنها عند مرضها ويصطحبها عند الخروج والتنزه وقت فراغه مع أصدقائه وماتت بعد يومين من رحيله حزنا عليه.

 

 

شيعت جنازة الريحاني يوم 9 يونيو 1949 وتعد من أكبر الجنازات في مصر بعد جنازة سعد باشا زغلول، فقد أمر الملك فاروق بتصويرها مع إرسال مندوبا عنه لحضور الجنازة وعربة ملكية لتكريم الجثمان وحمله إلى مثواه الأخير .