الخميس 26 سبتمبر 2024

الجوع والألحان في حياتي!

12-3-2017 | 11:28

بقلم : محمد الموجي

(كان الجوع ضيفا ثقيلا علي حياتي...أما الألحان والنغم فكانت سلوتي وزادي .. والطريق طويل، والكفاح دستور كل من يتطلع إلي النجاح)

لست أدري متي علي وجه التحديد بدأت أحب الموسيقي وأعشق الغناء.. ولكني أذكر حادثة من الماضي البعيد حين كنت تلميذا في مدرسة ثانوية في المحلة الكبري وذهبت ذات صيف إلي منزل عمي ووجدت عودا، مضيت أدندن عليه وأنا منسجم لا أعرف لحنا، ولكنني انتشي لما أفعل وأغني مطالع الأغنيات بصوت خفيض فأطرب نفسي فقط!

ودخل والدي ذات مرة وسمع هذا العبث الذي أفعله فثار وغضب وقال إنني لو اتجهت لهذه الاشياء «عمري ما أفلح» وأخذ العود من يدي وأغلق عليه الدولاب!

ومنذ ذلك اليوم أقسمت ألا أترك العود من يدي .. قضيت الاجازة والشوق إلي العود يقتلني ودخلت مدرسة الزراعة وكانت فرحتي لا توصف عندما عرفت أن للمدرسة فرقة موسيقية وعلمنا أستاذ هناك النوتة وما إليها وفي شهور قلائل استطعت - عن جدارة- أن أكون رئيس الفرقة الموسيقية، وخلال الدراسة في مدرسة الزراعة وضعت ألحانا كانت تطرب كل من يسمعها وتحوز نجاحا في حفلات المدرسة في كل عام .

وتخرجت في مدرسة الزراعة وجئت إلي القاهرة لألتحق بالإذاعة ولكن المرحوم مصطفي رضا رفض قبولي رغم أنني اجتزت امتحانه وقال: نحن لا نريد من مدرسة الذين يعزفون سماعا.

وقدمت طلبا إلي الحكومة وعينت مهندسا للاملاك في بيلا ولم يفارقني العود يوما واحدا وطلبت أن انقل إلي القاهرة لأكون قريبا من الفن وأهل الفن فرفضوا ولم أجد بدا من الاستقالة.

فتوجهت إلي مصر .. بلا عمل... وبعود تحت ذراعي!

وطرقت الأبواب وأنا الغريب فلم يفتح لي باب ... ومضت الأيام ونفدت نقودي فانتقلت من فندق متواضع إلي فندق نصف متواضع وفي الليلة التي كدت انتقل فيها من الفندق النصف متواضع إلي الطريق وجدت عملا وكان أجري عشرة قروش في كل ليلة وكان العمل أن أضع ألحانا لاستعراضات كازينو في قلب القاهرة ولكني وجدت نشوة أن ينشر اسمي في الاعلانات وإن كتب «الهاوي محمد الموجي».

وكنت أعرف أن كلمة الهاوي مقصود بها ألا أطالب بالمزيد من الأجر لأن الهاوي لا يأخذ أجراً.

ولكن العشرة قروش وضعت حدا بيني وبين التشرد التام!

وأحيل والدي إلى المعاش في تلك الاثناء وأعطته الدولة سبعمائة جنيه مكافأة أعطاني منها أبي الطيب القلب نصفها لأكون حياتي، ولم أكون حياتي بل كونت فرقة استعراضية واستأجرت كازينو البسفور لأضع الألحان دون أن تعترض صاحبة الصالة ولأعلن اسمي بالطريقة التي أريدها دون أن يسبق اسمي لفظ «هاوي»!

ومضت ثلاثة شهور بحثت بعدها عن رأسمالي فلم أجده ... كانت نشوة الألحان تنسيني أنني أخسر كل ليلة عشرة جنيهات وكان حبي للموسيقي يغمض عيني عن الجوع الذي يقبع في نهاية الطريق.

وذقت في تلك الأيام طعم الحرمان... كنت أبيت من غير عشاء وأعزي نفسي بأنني كنت متعبا من طول السير علي قدمي والمتعب لا يحب الطعام وكنت أخرج بلا إفطار وأعزي نفسي بأن الذي يبحث عن عمل لا يجب أن يشغله الطعام عن بحثه وأدور في النهار أبحث عن صديق يقرضني شيئا إلي أيام الميسرة فأجده حينا ولا أجده في أغلب الأحيان وأتناول طعام الغداء حينا واتقشف كفقراء الهنود في أغلب الأحيان!

ولكن شيئا واحدا كنت أجد فيه القوت والزاد .. ألحاني التي أضعها بنفسي واسمعها لنفسي واحتفظ بها لنفسي.

وذات يوم رأيت رجلا كان يعمل معي في بيلا فسارعت إليه لاقترض بعض النقود وسألني عن حالي قبل أن أسأله عما في جيبه فنسيت ما أريد منه ورحت أشرح له قصة حياتي في القاهرة وأخذني الرجل إلي قريب له يعمل في الإذاعة وقال له: «إن هذا الفتي من خير من يجيدون العزف علي العود... وأشهد له وتشهد له بيلا وشبين الكوم والبلاد المجاورة بأنه موسيقارها الأوحد!»

وعزفت لقريب صديقي فطرب وغنيت له فانتشي وعزفت له من ألحاني الخاصة فرفع حاجبي الدهشة وأفهمني بلا نفاق أنني مدهش أو إنني ممن «يقتبسون» ألحان الغير...

لن أطيل...

أخذني هذا الرجل إلي اللجنة وفي مارس سنة 1951 قررت اللجنة أنني أصلح.

وقالوا لي: سنجعلك ملحنا للمختارات مع محمود الشريف والقصبجي وصدقي

فقلت: أني أفضل أن أخذ ركنا ولا أزج بنفسي بين هؤلاء الشوامخ في الموسيقي قبل أن أصعد إليهم كما صعدوا... من أول الطريق وعجبوا لاقتراحي أو هم سروا لتواضعي الموسيقي وأعطوني ركنا وكان الامتحان الذي أديته للموسيقي ولم يمتحنونى في الغناء ويجب أن أقول إنني أحب الغناء كالموسيقي وأنني كنت اتحرق شوقا إلي اليوم الذي أجلس فيه أمام الميكرفون.

وفي أول برنامج وضعت ألحانه تضايق مني المطربون الجدد وقالوا إنني أغالي في آرائي ذلك أنني لم اختر من بينهم جميعاً إلا عبدالحليم حافظ وفاطمة علي!

وغني عبدالحليم أول ألحاني فأحسست إنني أنا الذي أغني وليس هو وغني عبدالحليم تاني ألحاني فتأكد للي أن هذا المطرب الشاب يصنع معي وحدة منسجمة والسر إلهي.

ومنذ ذلك الوقت وأنا أضع لعبدالحليم ألحانا كثيرة..

وذات يوم.. وكان الاستديو معدا لتسجيل أغنية من تلحيني غاب عبدالحليم ودقت الساعة لتعلن الوقت الذي يجب فيه أن نبدأ ودفعني الاستاذ حافظ عبدالوهاب إلي الميكرفون وقال لي «غن .. أنت .. لقد سمعتك ذات مرة وأعجبني صوتك».

وجلست أمام الميكرفون وتأهبت للغناء وفي ذات الوقت الذي كنت أحس فيه بوخز الضمير لأنني اعتدى علي اختصاص عبدالحليم أحسست بنشوة خفية لأن أحد أحلامي الغناء قد تحقق!

ولم استطع أن أتبين أيهما سيطر علي مشاعري أكثر من سواه .. وخز الضمير أم تيار النشوة لم استطع لأن باب الاستديو فتح فجأة ودخل عبدالحليم وغني!

وأحسست أيضا أنني الذي أغني وقررت قراراً لا رجعة فيه لا أغني وألا أحاول الغناء.

هكذا أمضي في طريقي...

أعتقد أن الطريق لازال شاقا وشائكا وطويلا ولكني اعتقد أيضا أنني تعبت كثيرا ووخزت الاشواك أناملي وتحققت بعض أمنيات حياتي لأنني تحليت فى أشد أيام الجوع بفضيلة الصبر!

والصبر في ميداننا أول مادة في دستور النجاح!

الكواكب عدد 127 - 5 يناير 1954