الأحد 19 مايو 2024

ربيع موسكو فى الشرق الأوسط

15-3-2017 | 12:08

بقلم – سفير د. رضا شحاتة

يبدو أن شتاء هذا العام ٢٠١٧ هو ربيع موسكو بحق أو بالأحرى ربيع سياستها الخارجية فى الشرق الأوسط والعالم العربى.

هذه الدلالات والرموز التى تتمثل فى (ربيع موسكو) الدافئ بسخونة وحرارة نشاطها السياسى والدبلوماسى مع عواصم المنطقة الساخنة، الشرق الأوسط، قد تجسدت آخر ما تجسدت فى زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو فى التاسع من هذا الشهر إلى موسكو ولقائه مع الرئيس الروسى بوتين، فى أعقاب لقاء سابق فى يونيو من العام الماضى، وذلك بالتوازى مع دعوة مماثلة بعثت بها القيادة الروسية للرئيس الفلسطينى محمود عباس (أبو مازن) للقاء عمل مع الرئيس بوتين فى مايو القادم، وليست مقابلات (نتنياهو) ثم الترتيب للقاءات (أبو مازن) فى أعقابه مع الرئيس بوتين خلال شهرين فقط بالمصادفة المرتجلة أو بالتزامن المجرد، وليس من المصادفة أيضًا فى نفس السياق أن يلتقى نتنياهو مع بوتين فى أعقاب مباحثاته مع الرئيس الأمريكى (دونالد ترامب) فى الخامس عشر من الشهر الماضى، وربما يدرك الفلسطينيون أنه برغم (دفء) العلاقات بين (نتنياهو) و(بوتين) أو بين روسيا وإسرائيل بمعنى أدق فإن موسكو لم تصل بعد فى تلك العلاقة إلى مستوى التحالف الاستراتيجى الكامل أو على الأقل حتى الآن.

ذلك أن الدائرة الأقرب إلى صياغة القرار الفلسطينى فى القيادة السياسية للسلطة كانت قدرت وأدركت سلفا أمرين جوهريين أولهما أن الرئيس الأمريكى الجديد قد أدخل تغييرًا جذريًا ليس فقط فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، بل وفى العلاقات الأمريكية الروسية، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية أو الأمر الثانى وهذا هو الأهم، أن أخطر التقديرات الفلسطينية اليوم، وهى حصاد إعادة ومراجعة السياسة الخارجية الفلسطينية منذ انتخاب ترامب فى نوفمبر ٢٠١٦ ـ تقول إن ميزان القوى والمعادلات الدولية كلها قد تبدلت وأن صيغة التفاوض الكلاسيكية التى وضعت أسسها فى اتفاق أوسلو ١٩٩٣ـ فى ظل الرعاية الأمريكية قد راحت واندثرت وماتت كما كان قد تنبأ بوفاتها المؤرخ العالم الكاتب الفلسطينى الأمريكى (ادوارد سعيد) فى كتابه عام ٢٠٠٠ (نهاية عملية السلام) أوسلو وما بعدها، (ذلك السلام الذى تبدد فى أوهام كاذبة كما يقول ادوارد سعيد) وإن كانت هذه النتيجة المتوقعة قد استيقظ وأفاق عليها القادة الفلسطينيون بعد ربع قرن من العبث السياسى الإسرائيلى والأمريكى معًا.

وبداية من المنظور الروسى سواء للمشهد الفلسطينى أو الشرق أوسطى بشكل عام، فالعالم العربى ـ كما تحلله موسكو اليوم، بدأ من العراق إلى سوريا، إلى اليمن إلى ليبيا، تجتاحه ظواهر الفوضى والتشرذم، ومن ثم فلا حاجة بإسرائيل لأن تقبل بظهور (دولة عربية) أخرى، خاصة أن تكون مثل تلك الدولة المفترضة أو المحتملة نظريًا مقسمة أو منشطرة إلى شطرين ما بين غزة والضفة الغربية. وتحليل أى آفاق محتملة لتواصل فلسطينى إسرائيلى لابد وأن يركز على وأن ينطلق من عدد من العناصر الرئيسية، الموقف الإقليمى الأشمل فى الشرق الأوسط، ثم الموقف السياسى والاستراتيجى فى العواصم الثلاث، بدءً من القدس فى إسرائيل ورام الله فى الضفة الغربية، وحماس فى قطاع غزة، وأخيرًا مصالح الدول الكبرى لاسيما المصالح الأمريكية والمصالح الروسية وتأثير كل ذلك على احتمالات تدشين أى عملية سياسية جديدة أو تأثيرها على احتمالات تجديد العنف واندلاع عمليات الإرهاب فى المنطقة وفى دولها.

وكذلك فإن احتمالات اندلاع الإرهاب لم تزل تخيم على الضفة الغربية وغزة بالتوازى مع استمرار النزعة الإيرانية للهيمنة الإقليمية، أما أوضاع السلطة الفلسطينية ذاتها فهى لم تزل تعانى من العزلة أو الانعزال فى علاقاتها مع حماس، ويقابل هذه الصورة الواضحة السلبية، مظاهر موقف سياسى إسرائيلى تجسده عناصر فى حكومة (نتنياهو) التى تعلن صراحة وعلنًا رفضها القاطع لأى عملية سياسية تقوم على أساس حل الدولتين، وإن كان (نتنياهو) نفسه يحتفظ بدرجة أعلى أو مساحة أوسع فى المناورة يرفض من خلالها تقديم أى تنازل قد يساعد على كسر الجمود أو التوصل لحل، فهو يحتفظ فى نفس الوقت بقدر واضح من الغموض إزاء حل الدولتين وهو بذلك يدرك حق الإدراك أن سياساته سوف تدفع دفعًا إلى الانزلاق بإسرائيل والفلسطينيين باتجاه (دولة واحدة) إلى كيان سياسى مركب يتمثل فى دولة واحدة على أساس ثنائية القومية أو إلى دولة عنصرية(آبارتايد) وكلا الاحتمالين مآلهما الرفض، ولا يختلف موقف (أبو مازن) كثيرًا عن موقف (نتنياهو) من حيث عدم قدرته على تقديم أى تنازلات أو إقدامه على التوصل إلى تسوية قد لا تتيح له قدراته القيادية الدفاع عنها أو تبريرها أمام الشعب الفلسطينى.

والأخطر بعد ذلك أن الأوضاع داخل غزة تسير من سيئ إلى أسوء أمنيًا واقتصاديًا وإنسانيًا ويضاعف من خطورة الموقف الأمنى كله فى غزة تصاعد التيارات المتطرفة التى قد تدفع إلى جولة جديدة من الصدام بين إسرائيل وحماس فى ظل سياسة وزير الدفاع الإسرائيلى (ليبرمان) الذى يتبنى استراتيجية الرد الجسيم على ما يسميه بأعمال عنف من جانب «حماس» بدعم من إيران وحزب الله.

وينطوى هذا الوضع على انعكاسات سلبية ومباشرة أمنيًا وعسكريًا وسياسيًا على أطراف أربعة رئيسية فى المنطقة، أى على مصر أولًا وعلى الأردن ثانيًا وعلى الفلسطينيين فى الضفة الغربية وغزة ثالثا ثم على إسرائيل نفسها رابعًا.

هذه القضايا الإقليمية المرتبطة فى جوهرها بالصراع الفلسطينى الإسرائيلى لها انعكاساتها المباشرة على آفاق وأبعاد وحدود الدور الروسى فى الشرق الأوسط من حيث علاقاتها بإسرائيل، ومن حيث علاقات روسيا المتعمقة والمتشعبة بإيران (ذات التأثير على حزب الله بعدائه وسجل حروبه مع إسرائيل) ثم بتهديداتها المعلنة لإسرائيل، وبعلاقاتها العميقة مع سوريا كطرف مباشر ومتورط فى حربها الأهلية ثم مع تركيا ذات التأثير المباشر فى إنهاء الصراع المسلح فى سوريا أو تمديد أجل الصراع ( فى ضوء علاقات تركيا المتجددة مع موسكو) مباحثات أردوغان الحالية مع بوتين(وإشادته وإطراؤه بسخاء على مستوى التعاون الاستراتيجى بينهما فى مباحثاتهما مارس الجارى ٢٠١٧).

على خلفية مظاهر الفوضى والتشرذم فى المشرق العربى وشمال إفريقيا (ليبيا) وعلى خلفية التواصل والتلاقى الإسرائيلى الروسى، ثم الفلسطينى الروسى ، ثم الروسى السورى ثم الروسى التركى لتحديد القواعد الحاكمة فى لعبة النهاية العسكرية والسياسية كما توصف مباحثات الاستانة الدورية فى كازاخستان، نقرأ على الجدران اتساع وتعميق الدور الروسى فى تحديد ورسم قواعد التعامل مع الدول المحورية فى الشرق الأوسط، سوريا، إسرائيل، وفلسطين، وإيران ومع تركيا ـ خاصة بعد حادثتين منفصلتين أولهما إسقاط الطائرة الروسية عام ٢٠١٥، ثم اغتيال السفير الروسى فى أنقرة ١٩ ديسمبر عام ٢٠١٦.

الدور الروسى الإقليمى فى الشرق الأوسط منذ سبتمبر ٢٠١٥ أى العام الخامس من الصراع فى سوريا، استحدث موقفًا أمنيًا غير متوقع على الحدود الإسرائيلية تمخض عن مستوى عال من التنسيق العسكرى الوثيق والناجح بين الأجهزة العسكرية الروسية التى تولت عملية التدخل العسكرى فى سوريا، وبين قوات الدفاع والاستخبارات الإسرائيلية وما حققه من تجنب أى صدام خلال هذه العمليات العسكرية، مما دفع بالعلاقات بين موسكو والقدس إلى مستويات أعلى وغير مسبوقة فى التنسيق والتعاون إن لم يكن عمليًا أو عملياتيًا إلى درجة أقرب إلى التحالف العملياتى شبه الاستراتيجى الإقليمى بين الدولتين.

ومنذ ذلك التاريخ الخامس عشر من سبتمبر ٢٠١٥ انتهجت روسيا استراتيجية ثلاثية الاتجاه والمحاور فى الشرق الأوسط تهدف من ورائها التعامل مع اللاعبين الرئيسيين فى المنطقة بهدف واضح ومحدد ذلك هو خلق نوع من الجسر الرابط بين القوى السنية (مصر، السعودية، ودول الخليج وبين قوى الهلال الشيعى (إيران، العراق مع التحالف مع سوريا، حزب الله اللبنانى ) أما على المستوى الدولى (المحور الثانى) فهو أن تكون جسرًا بين الغرب والعالم العربى الإسلامى إذ طرحت السياسة الخارجية الروسية نفسها كوسيط بين إسرائيل وحزب الله، بل لنقل بين إيران وإسرائيل وذلك فى حالة ما إذا اندلع أى صراع مسلح فى المستقبل بين القوتين الإقليميتين.

وعلى الرغم من حدوث نكسات عدة متتالية أولها دون شك نكسة التدخل الأمريكى فى العراق وما تبعها من خيبات مؤلمة، ومن نكسة ما سمى بالربيع العربى، ثم نكسة التدخل العسكرى لحلف الأطلنطى فى ليبيا، وهى نكسات تناقضت فى مجموعها مع المصالح ومع المواقف الاستراتيجية لروسيا فى الشرق الأوسط، على الرغم من كل ذلك فإن روسيا استطاعت أن تشق لنفسها مسارات واضحة من النفوذ والتأثير العميق وسط إقليم الشرق الأوسط كله ووسط شمال إفريقيا (ليبيا) من خلال توسيع إطار شبكاتها الدبلوماسية والاقتصادية مستخدمة فى ذلك الاستخدام الأمثل والأذكى لموقعها الدولى المحورى داخل مجلس الأمن أو التجمعات الدولية مثل مجموعة ٥+١ (الدول دائمة العضوية الخمسة فى مجلس الأمن+ ألمانيا خاصة بالملف النووى الإيرانى ) ثم اللجنة الرباعية للشرق الأوسط (والتى تعرف باسم لجنة تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق والتى تصدر بيانات دورية لا تبالى بها إسرائيل ولا تحترمها واشنطن أماعلى مستوى العلاقات التفاعلية مع إسرائيل(أى المحور الثالث)، فقد أفصحت موسكو دائمًا عن حرص كبير على تعميق العلاقات مع القدس منذ (العودة الكبرى للمنطقة ) كما توصف دوليًاـ إلى الشرق الأوسط إذ أنه من المنظور الروسى، تمثل إسرائيل لاعبًا سياسيًا وعسكريًا أساسيًا فى المنطقة لما تتمتع به من إمكانيات استراتيجية بعيدة المدى والأثر تغطى منطقة غرب آسيا كلها (المشرق العربى كله وشرقى المتوسط ومصر وليبيا) فضلًا عن أن إسرائيل قادرة على توفير مزايا ضخمة لروسيا فى إطار علاقاتها مع الغرب بل وأضف إلى ذلك أنها ـ أى إسرائيل تستوعب مواطنين روس بالملايين هاجروا من روسيا فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتى ويشكلون أكثر من خمس سكان إسرائيل وهم من أكثر فئات سكان روسيا السابقين ثقافة وعلمًا وخبرة تكنولوجية متقدمة (خدموا فى مواقع مهمة فى صناعة السلاح الروسى).

ويمكننا القول وبإيجاز شديد أنه بعد ربع قرن من استئناف العلاقات الدبلوماسية الثنائية مع روسيا (بعد أن كان قد قطعت بعد حرب ١٩٦٧ إبان الاتحاد السوفييتى) فإن مستوى التنسيق الأمنى ومستوى الزيارات رفيعة المستوى ومستوى التبادل الاقتصادى والتكنولوجى والثقافى يكاد يصل إلى مستوى الذروة ومع ذلك فإذا نظرنا إلى تحركات روسيا الخارجيةـ لا سيما فى سوريا تحديدًا، وفى الشرق الأوسط بشكل أوسع وفى غيره من المسارح الاستراتيجية الدولية، فإنها لا تتطابق بشكل دائم مع المصالح الإسرائيلية، ومع أن آليات التنسيق الأمنى الثنائية بين روسيا وإسرائيل قد حالت دون أى توتر أو احتكاك أو أى اشتباكات كان يحتمل أن تقع بينهما، فإن إسرائيل لم يكن لتفترض دومًا أن موسكو سوف تأخذ المصالح الأمنية الإسرائيلية وبشكل تلقائى فى اعتبارها لاسيما فيما يتصل بوجود حزب الله على الحدود السورية اللبنانية، أو فيما يتصل بمستقبل النظام السياسى فى سوريا لاسيما إذا كانت تلك المصالح الإسرائيلية تتناقض مع المصالح الروسية الاستراتيجية تناقضًا جوهريًا.

على أن اليقين الثابت أن روسيا من خلال استراتيجيتها بإنقاذ نظام الأسد ومن ثم الحفاظ ولو شكلًا على كيان الدولة السورية (وإن لم يكن شكل هذه الدولة أو صيغتها النهائية قد تتحدد حتى الآن انتظارًا لنتائج المباحثات ما بين الأستانة وجنيف ) فإن روسيا بذلك إنما تكون قد أسهمت فى تحقيق قدر من الاستقرار على الحدود الإسرائيلية السورية وهو الأمر الذى ترحب به إسرائيل وإن كانت تواجهه ـ على طرف آخر مجموعة من الضغوط نتيجة تمركز قوات التحالف المدعوم من روسيا داخل سوريا وهذا التحالف يتمثل بالطبع من وجهة نظر إسرائيل، فى اتساع النفوذ وتعاظم الأطماع الإيرانية فى سوريا من خلال عدة محاور، أولها الحفاظ على بناء حكومة الأسد، وثانيها دعم القدرات العسكرية لحزب الله فى لبنان ثم ثالثًا المساعدات الروسية فى تدريب وتسليح قوات حزب الله، وما ينطوى عليه كل ذلك من آثار أمنية سلبية بالنسبة لإسرائيل.

ومن خلال قراءة مدققة للموقف الاستراتيجى والأمنى سريع التغير وشديد التقلب ما بين سوريا ولبنان، بل وعلى مستوى الشرق الأوسط كله، ثم إذا أخذنا فى اعتبارنا ذلك التقسيم الذى يجرى على قدم وساق لمناطق النفوذ ما بين روسيا وإيران وتركيا على الأرض السورية، فإنه ليس من الواضح تمامًا بالنسبة لى على الأقل. إلى أى مدى وإلى أى فترة قادمة سوف تستمر كل من روسيا وإسرائيل فى الحفاظ على هذا التعاون الأمنى والعسكرى المتوازن بشكل لم يزل بالغ الدقة، فالواضح أمامى من قراءة هذه المعادلة المتأرجحة أنه مع اقتراب بطىء للموقف فى سوريا من مشارف مرحلة التسوية السياسية، فالاحتمال الأقرب هو أن روسيا وإسرائيل قد تصطدمان بتناقضات، ربما صدامات فى المصالح فيما يتصل بإيران، أو فيما يتصل بوكلاء إيران داخل سوريا(الميليشيات الشيعيةـ حزب الله ـ الحرس الثورى ـ ميليشيات عراقية).

وفى هذا السياق، لابد من التأكيد ولو مرة أخرى على أن الاستهداف الاستراتيجى المبدئى من تدخلها العسكرى فى سوريا كان موجهًا إلى ما يوصف بالجماعات الإرهابية الجهادية فى سوريا والتى لم تكن تهدد النظام الحاكم لبشار الأسد فحسب بل كانت تشكل تهديدًا للأمن القومى الروسى (حرصت روسيا داخليًا على احتواء أى توسع للتيار الإسلامى الراديكالى والجماعات المتطرفة فى منطقة شمال القوقاز وغيرها من المناطق ذات الأغلبية المسلمة داخل روسيا فضلًا عن المواطنين الروس الراحلين إلى الخارج سواء للقتال فى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش أو الانضمام للتدريب والإعداد للقتال).

وعلى الجانب الإسرائيلى، فإن الخبراء العسكريين يقدرون أن روسيا فى تحركاتها فى سوريا أو باتجاه سوريا كانت مدفوعة بدوافع أوسع بكثير من مجرد التصدى لتحدى الإرهاب الداخلى والإقليمى، بل هى مدفوعة برغبة ملحة وقوية لأن تنبعث من جديد كقوة إقليمية رائدة، ثم أن تتحدى وإن استطاعت أن تحد من مكانة الولايات المتحدة، ولاسيما سد ذلك الفراغ الإقليمى الناشئ نتيجة لسياسة واشنطن بسبب ترددها من ناحية، وبسبب محاذيرها فى التحرك من ناحية ثانية باتجاه قضايا المنطقة، ويضاف إلى ذلك أن موسكو فى تقدير خبراء إسرائيل قد تكون مدفوعة بحرصها على تشتيت الأنظار بعيدًا عن بعض مناطق التوتر فيما بينها وبين الغرب وأول هذه المناطق الصراع حول أوكرانيا وشرق أوربا، ولا ينفصل عن هذه المعادلات المركبة حرص روسيا على ترجمة إنجازاتها السياسية والعسكرية والدبلوماسية فى سوريا إلى أدوات ضغط لابتزاز تنازلات قادمة فى مفاوضاتها مع الدول الغربية بما فى ذلك إلغاء العقوبات الاقتصادية للاتحاد الأوربى ثم الاعتراف الغربى بالمصالح الروسية فى مناطق النفوذ الروسى التى تسميها موسكو بمناطق «الجوار القريب».

ومن المنظور الإسرائيلى مرة أخرى، فإن روسيا تتوخى تحقيق شكله متكاملة من الأهداف الإقليمية والعالمية من خلال أنشطتها العسكرية والدبلوماسية فى سوريا، فهى تسعى أول ما تسعى إلى إقامة منطقة نفوذ دائمة بطول شرقى المتوسط غربى سوريا لتأمين القواعد الروسية فى المنطقة كقاعدة لها تنطلق منها موسكو للحفاظ على مصالحها الإقليمية والعالمية الأوسع.

والسؤال فى نهاية المطاف إلى أى مدى أثر هذا كله على علاقات روسيا بإسرائيل، وأولى هذه النتائج أن هذه السياسة الروسية خلقت واقعًا استراتيجيًا جديدًا بإنقاذ نظام الأسد من الانهيار وضخ دماء قوية فى السياسة الإيرانية وحزب الله والميليشيات الشيعية ومن ثم توفرت لروسيا أدوات مهمة ومؤثرة كوسيط رئيسى فى الأزمة السورية، وكوسيط إقليمى حيوى قادر على تنشيط المبادرات ورفع مستوى العلاقات إلى مستويات أعلى مع اللاعبين الإقليميين (تركيا ومصر والسعودية) ومن أهم الأدلة على هذه السياسة ذلك التصالح المفاجئ فى الصيف الماضى ما بين (بوتين) و(أردوغان) فى أعقاب أزمة إسقاط الطائرة الروسية المقاتلة خريف ٢٠١٥ بالتوازى مع تعميق علاقاتها مع إيران وتركيا والسعودية حتى ولو لم تجمع بين تلك الدول مصالح متطابقة فيما يتصل بسوريا.

لكن موسكو مع كل ذلك لم تحقق حتى الآن بعضًا من أهدافها الرئيسية المهمة بما فى ذلك إلغاء العقوبات الاقتصادية الغربية أو تخفيف الضغوط الأمريكية والناتو فى دول شرق أوربا.

ويبقى أن الشرق الأوسط لم يزل يمثل المسرح الأكثر نشاطًا ونجاحًا وحصادًا وفيرًا للاستراتيجية الروسية بعد أن استطاعت بعد (معركة حلب) التى تعتبر منعطفًا فى التغير الاستراتيجى للأزمة السورية، أن تساعد روسيا فيما يبدو إلى الانتقال من المرحلة العسكرية إلى المرحلة السياسية لتترجم إنجازاتها إلى واقع سياسى إقليمى جديد من خلال هندسة (مثلث تحالف تكتيكى) يفرض نفسه على الواقع الإقليمى المتغير، ذلك هو التحالف السورى ،الإيرانى ، التركى ومن خلفه موسكو أو تحت الرعاية الروسية لتتحول فيها دول المثلث إيران وتركيا وروسياـ إلى القوة الرائدة للتسوية السياسة، بل للتسويات السياسية فى المنطقة (وبالطبع للنظام السورى ومستقبله) إعلان موسكو فى ٢٠ ديسمبر ٢٠١٦، واجتماعات يناير ٢٠١٧ فى الأستانة فى كازاخستان ـ كرست هذا التحالف الثلاثى ـ الذى لم يزل مفتوحًا أو مواربًا أمام واشنطن أى بما يخدم المصالح الإسرائيلية فى النهاية).

وإذا كان المسرح الاستراتيجى السورى وتخومه هو المساحة الأوسع للسياسة الروسية فى الشرق الأوسط، فإن الصراع الفلسطينى الإسرائيلى ـ كما سبقت الإشارة لم يزل يمثل عنصرًا نشطًا فى الانخراط الروسى المتجدد فى سياساته الإقليمية والعربية، وفى مقابل أو على النقيض من الفشل الأمريكى المتكرر فى الوساطات بين الفلسطينية والإسرائيلية (منذ فشل وساطات كيرى وزير خارجية أوباما فى صيف ٢٠١٤) تحتفظ موسكو بموقف وبأدوات الوسيط (المؤيد تاريخيا ً للحقوق الفلسطينية) فقد استضافت فيما بين ١٥ -١٧ يناير ٢٠١٧ مباحثات فلسطينية - فلسطينية (بين حماس وفتح) فى أعقاب مؤتمر باريس مباشرة، وإن لم تتمكن من تحقيق إنجازات حقيقية حتى الآن، وإن كان اللافت للاهتمام أنه حتى وإن كانت إسرائيل قد أبدت نوعًا من عدم الارتياح أو شىء من القلق تجاه دعم موسكو للتحركات الفلسطينية والتصويت لصالحهم فى الأمم المتحدة أو اللجنة الرباعية إلخ فإسرائيل فى السنوات الأخيرة أقرب إلى الانفتاح النسبى تجاه مواقف موسكو أو مبادراتها فى ضوء توازن أو تبادل المصالح الإسرائيلية الروسية والكيمياء الجيدة بين القيادتين ولتأثير الوجود الروسى المهم فى إسرائيل منها إلى الانفتاح على مبادرات بروكسل (الاتحاد الأوربى) أو باريس (حكومة الرئيس هولاند التى دعت لمؤتمر باريس الأخير ) يشار فقط فى هذا السياق إلى أن حجم التجارة الثنائى بين إسرائيل وروسيا ٣.٣ بليون دولار عام ٢٠١٥ بزيادة تقدر ٧٣٪ عن عام ٢٠١٤ خاصة فى مجال مبيعات الأسلحة الإسرائيلية ومنها بيع إسرائيل لطائرات بدون طيار) لروسيا أواخر عام ٢٠١٥ واستيراد موسكو لخبرات النانو تكنولوجى (التكنولوجيا متناهية الصغر ومعدات التأمين الإلكترونى فضلًا عن الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى ـ زيارة رئيس وزراء روسيا لإسرائيل ميدفيديف نوفمبر العام الماضى والرئيس بوتين ٢٠١٢.

على أن مستقبل التطور فى العلاقات يتوقف على أو يرتبط بالتطورات الإقليمية وبالعلاقات بين واشنطن وموسكو والقوى الكبرى بشكل عام وبمواقف القوى المتحالفة فى علاقاتها مع إسرائيل (إيران ، حزب الله ) ثم بمستقبل الأوضاع فى سوريا ومدى استقرار نظام الأسد.

لكن التصدى لمواجهة تحديات الإرهاب (وعولمة) تنظيم الدولة الإسلامية عبر الشرق الأوسط، المشرق وشمال إفريقيا ـ وامتداداته إلى داخل أوربا، وإلى آسيا الوسطى والقوقاز ومناطق البحر الأسود وبحر قزوين وتهديداته لروسيا ذاتها يفرض أو على الأرجح أنه سوف يفرض احتمالات واسعة لتعاون روسى إسرائيلى أوثق وأبعد مدى ويخلق قواسم مشتركة وأهدافا مشتركة بين الاستراتيجية الروسية الإقليمية وبين الاستراتيجية الإسرائيلية الإقليمية أيضًا وهو ما يتعين رصدها وتحليلها واستقراء نتائجها على المدى القريب.

وفى التحليل الأخير فإنه وإن لم تكن إسرائيل حاليا هى الهدف الأول والمباشر لما يسمى بالإرهاب الجهادى الدولى وشبكته الواسعة، فإن دورها بالاشتراك مع روسيا ومع الدول الإقليمية يتمثل فى توفير المعلومات الاستخباراتية عن المسارح العملياتية الرئيسية بالقرب من حدودها (مكافحة مصر للإرهاب فى سيناء).

لكن تحقيق الاستقرار الإقليمى وتقليص أخطار الإرهاب سواء على المستوى العالمى أو على مستوى الشرق الأوسط لن يتحقق إلا إذا اقترن وارتبط بالتحرك وبشكل سريع ومبكر بحل القضايا الكبرى المستعصية فى الشرق الأوسط وفى قلبها وعلى رأسها القضية الفلسطينية بمشاركة الفاعل الأنشط والوسيط الأكثر انخراطًا سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا فى المنطقة فى السنوات الأخيرة، وفى صدارتها آليات السياسة الخارجية الروسية وبدعم لا غنى عنه من القوى الإقليمية الرائدة والفاعلة ومصر فى مقدمتها والتى تجمعها قواسم استراتيجية مشتركة كثيرة مع كل الأطراف العربية والإقليمية والدولية تجاه معظم القضايا الشائكة والملحة والتى لم تزل تراوغ الجميع.