يعيش الإنسان بالأمل ويسعد حينما يفكر أن المستقبل سيكون أفضل لذلك حينما يجد المصرى أملاً حتى لو كان صغيراً لا يكاد يرى بالعين المجردة يتمسك به ويسعى وراءه.
هذا تحديداً هو حال التعليم فى مصر فهو الأمل الحقيقى للمصريين، بل أكاد أجزم أنه سيحتل المرتبة الأولى لو أجرينا استفتاءً حقيقياً عن أمانى المصريين فى المستقبل ستكون التعليم والصحة ورغيف الخبز أى الحياة اليومية للمواطن المصرى
قبل ثلاث سنوات فى بداية تولى الرئيس السيسى كتبت عن قضية التعليم وبعدها بأشهر أيضاً كتبت رسالة أخرى وكانت تتعلق أيضاً بالتعليم ولكن تحديداً بملف المجانية والتصريحات المقلقة حولها من رئيس المجلس الاستشارى التخصصى للتعليم فى ذلك الوقت د. طارق شوقى والذى أصبح منذ الشهر الماضى، وزيراً للتربية والتعليم.
لأن التصريحات حول المجانية “والتسفيه والتعالى” عليها خطر عظيم على مستقبل هذا الوطن وعلى سلامه الاجتماعى.
والمجانية رغم أنها بند فى الدستور بل فى كل دساتير مصر منذ عام ١٩٥٢ وحتى الآن رغم أن الدستور الحالى - وضع كلمات بجانب المجانية يمكن من خلالها الآن الانتقاص منها . إلا أنها فى النهاية نص دستورى وهى بجانب ذلك ليست صنماً ، لا نعبده ولكن نحن ندافع عن المجانية لأنها مثل رغيف الخبز “العيش” خط أحمر للحفاظ على النسيج الوطنى وسلامه الاجتماعي
لذلك فإن أى تصريحات تعبر عن أفكار أو حتى اعتقاد شخصى ومنهج متعال مع المصريين هو لعب بالنار.
لأن واقع الأرقام فى مصر يقول إن ما يقرب من ٪ ٢٧ تحت خط الفقر وفقراء ونسبة أخرى تقترب من هذا الرقم وتدور حوله خاصة بعد تعويم الجنيه الذى رفع مستوى التضخم إلى نسب غير معقولة وتحدث لأول مرة منذ عقود وإذا كان المصريون دافعوا عن رغيف خبزهم فإن المساس بمجانية التعليم سيصبح لديهم أيضاً خطر داهم لأنها ستمس حلمهم المستقبلى أيضاً.
لأن حلم المصرى البسيط بجانب لقمة العيش وحتى الرغيف الحاف هو أن يرى أبناءه يتعلمون ويذهبون إلى مدارسهم كل صباح.. حتى وهو يعرف أن ابنه أو ابنته قد لا تجيد القراءة أو الكتابة بالمدرسة، لتدهور التعليم بها لكنه نفس الأب الذى قد يحرم نفسه من وجبة ليوفر لابنه ثمن المجموعة الدراسية أو الدرس الخصوصى كما يطلق عليه شعبنا الكريم.
وإذا كانت لغة الأرقام هى التى تطرح دائماً ويقال إن الدروس الخصوصية قد وصلت أرقامها إلى ما يقترب من ٤٠ مليار جنيه وأن الدراسات الأخيرة “الوزارية الحكومية” تقول إن المصريين يصرفون ٤٢٪من دخلهم على التعليم ليس معناه أبداً أن المصريين أغنياء وأن التعليم سلعة يجب أن يدفعوا ثمنها كما قال وزير التربية والتعليم فى كل تصريحاته وفى كل مكان حتى بعد تولى منصبه الوزارى، ويبدو أن الهجوم عليه من المصريين وهذا حقهم لأنه تعرض.. لأملهم وقدراتهم ألا وهو المجانية وقالوا للمجانية شعب يحميها. وجعله يبادر مشكوراً أى الوزير ليعلن أنه لامساس بالمجانية لأنها نص دستورى وهو حلف اليمين على أقدام الدستور.
بالتأكيد أشكر الوزير على توضيحه الهام الذى لا أعتبره تراجعاً ولكن لأنه أدرك أن التصريحات لها صاحب هو هذا الشعب ولذلك فإننى منذ سنوات أطرح أن تتغير النظرة للتعليم .
ففى عام ١٩٥٠ وحينما جلس المفكر الكبير والعلامة د. طه حسين على مقعد وزارة التعليم قال التعليم كالماء والهواء أى حق من حقوق الإنسان وهو ما أدركته دول العالم المتقدم منه وأخذت به، أى أن التعليم ليس “سلعة”.
كما صرح وزير التعليم الجديد د. طارق شوقى، وأنا لا أريد أن أتعرض لأشخاص ولكن أعرض ذلك لتوضيح الخلاف بين المفهومين والرؤيتين وبالتالى ما سيترتب عليهما من نتائج.
فالتعليم إذا كان كالماء والهواء فهو إذن متاح للجميع من أبناء المصريين بصرف النظر عن النوع والفقر واللون والجنس والدين.
وهذا المفهوم بالتالى سيترتب عليه نتائج وهى توفير التعليم الجيد أو بجودة عالية للجميع مما أدى بالدول المتقدمة إلى ارتفاع مستوى الإبداع والابتكار لديها لأنها وسعت القاعدة التعليمية الجيدة للجميع.
أما إذا اعتبرنا التعليم سلعة إذن فهى بلغة السوق سوف تتعرض لقيم وأعراف وقواعد السوق وعلى رأسهما العرض والطلب وهذا تحديداً هو ما يحدث فى مصر منذ عقود وتحديداً من السبعينيات فالتعليم المصرى أصبح سلعة تقدم جودتها لمن يدفع فيها وقادر عليها.
وهذا التفكير “التجارى” الذى تواكب مع الانفتاح السداح مداح خلق لنا سوق التعليم” سواء داخل المدارس الحكومية بمصروفات “خاصة يعنى” أو الخاصة أو الدولية وحتى المدارس الأزهرية دخلت ايضاً هذا السوق مؤخراً ولا أتحفظ أيضاً فى أن أقول إن القوات المسلحة تمتلك الآن مدارس دولية أى دخلت هذا المجال؟!
ليس لى اعتراض على الإطلاق أن يكون لدينا تعليم جيد ولكن أتحفظ تماماً أن يكون معيار الجودة مقترنا بالقدرة المادية للأسرة المصرية وهى الخطة الجهنمية التى حدثت على مدار العقود الأربعة الأخيرة والربط بين أننا لن نحصل على جودة للتعليم أو غيرها إلا بدفع مقابل للتعليم بل العكس هو ما حدث، فحدث التدنى فى الأداء والإنتاجية بل كل الإحصائيات والمؤشرات العالمية تؤكد أن مصر فى ذيل قائمة الدول على طريق جودة التعليم إن لم تكن فى الذيل تماما وهنا هم يضعون المؤشرات بعيداً عن منطق أن لدينا تعليم خمس نجوم ومدارس دولية على أرضنا أم لا وإنما يتحدثون عن التعليم فى مصر ككل كمنظومة واحدة، لا يهم أن هناك بضع عشرات من المدارس مصروفاتها تتجاوز ١٠٠ ألف جنيه سنويا أو تلك التى لا تتجاوز مصروفاتها ١٠٠ جنيه فقط لا غير .
وهذا تحديدا هو الرد الحقيقى على مفهوم أن التعليم “سلعة” لأنه لو كان التعليم سلعة لتم تحسين تصنيفنا التعليمى دولياً بما يعنى فساد هذه المقولة نهائياً.
وفى التقرير الأخير الذى عرض فى دافوس هذا العام جاءت مصر فى المراتب الأخيرة فى جودة التعليم.
بل إن تقارير البنك الدولى نفسه ودراساته حول التعليم والمعروف أن مصر عضو مؤسس به تشير بوضوح إلى أن الإنفاق الاستثمارى على التعليم وليس فقط “رفع الرقم” الذى يذهب٪ ٨٥ منه إلى المرتبات هو الذى يساعد على تحسين الإنتاجية ويوفر فرص التنمية.
إن مصر تحتاج بشدة لمشروع قومى لرصف العقول على غرار المشروعات القومية لرصف الطرق وإنشاء الكبارى.
بل إن مشروعا لرصف العقول قد يكون أسرع فى الإنجاز وقطف ثماره التى ستصل للجميع.
أعلم أن المشروعات القومية التى تقام خلال السنوات الماضية لها أهمية اقتصادية هامة لتحسين البنية التحتية وأنها تساعد فى توفير فرص عمل للمصريين.
ولكن ثمار أو عائد هذه المشروعات الإنشائية لا يشعر به المصريون أو تحديداً لا يشعرون بنتائجها لأنها مشروعات طويلة الأمد.
ولكن المشروع القومى لرصف العقول من خلال تعليم حديث ذى جودة عالية لكل المصريين - وليس لفئة دون الأخرى - سيشعر المصريون بثماره فوراً.
بل أكاد أجزم أن المصريين يمكن أن يلتفوا جميعاً حول مشروع قومى حقيقى على أرض الواقع للنهوض بالتعليم متى استشعروا أن هذا المشروع فى مصلحتهم جميعاً.
وهذا ليس كلام إنشاء وله تطبيق ممكن على أرض الواقع ويمكن للمصريين أيضاً أن يساهموا فى تمويله شريطة أن يشعروا أن العائد سيكون لهم وليس لاستبعادهم.
لذلك فخطورة المشروعات التعليمية المطروحة الآن مثل إلغاء الثانوية العامة وعقد اختبارات قبول بالجامعات قد تسبب أزمات لدى المجتمع المصرى خاصة أن غاية الأسرة المصرية هى تعليم أبنائها كسبيل للترقى الاجتماعى.
فما بالنا إذا أغلقنا أمامهم الفرص للحصول على فرصة تعليم جامعى وعال محترمة.
لذلك فإن الابتعاد عن أفكار وأطروحات مثل التعليم سلعة والمجانية فكرة عفى عليها الزمان والتعليم لمن يدفع واختبارات للقبول .
كلها أفكار ليست ضد العصر فقط الذى يتيح التعليم للجميع وإنما ضد كل الأرقام والمعطيات حول أوضاع المصريين الذين أنهكهم الوضع الاقتصادى والأفضل ألا تنتهك أحلامهم أيضاً فى التعليم فالتعليم هو بوابة الحلم والأمل للمصريين.