تحمل أيام المغفرة الواقعة في الثلث الأوسط من شهر رمضان نفحات ذكرى "غزوة بدر الكبرى " ، التي تحل علينا اليوم السبت السابع عشر من شهر رمضان ، فمنذ ١٤٣٧ عاما وبالتحديد في سنة 2 هجرية ، اندلعت أول مواجهة عسكرية في التاريخ الإسلامي بين المسلمين والكفار بعد زحفهم نحو مواقع المسلمين، واستمر القتال من الصباح حتى ظهر ذلك اليوم، وانتهت الغزوة بنصر الله للمسلمين وهزيمة الكفار وفرارهم بعد أن سقط منهم ( 70 ) قتيلا و تم أسر ( 70 ) أسيرا .
غزوة بدر الكبرى ليست حدثا تاريخيا ولى زمانه، لكنها منارة تنير للمسلمين في كل زمان طريق العزة والحياة الطيبة الكريمة ،طريق المنهاج النبوي تربية وتنظيما ، وهي معنى متجدد في الأمة متى قامت لتحق الحق وتبطل الباطل، وترجع تسمية غزوة بدر بهذا الاسم إلى المكان الذي دارت على أرضه المعركة وهى "أرض بدر "، و بدر هو اسم لوادي يقع بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهو أحد أسواق العرب، وأحد مراكز تجمعهم للتبادل التجاري والمفاخرة ، فكان مقصد العرب في كل عام .
وتعد غزوة بدر من أشهر الغزوات التي قادها الرسول، ولهذه الغزوة مكانة رفيعة ومتميزة في تاريخ الإسلام إذا ما قيست بغيرها من الغزوات ، فقد منحت المجاهدين الذين شاركوا فيها وسام متميز من التقدير والاحترام، وسجل التاريخ بطولاتهم في صفحات مشرقة، فكان "المجاهد البدري " يعرف بأنه بطلا مقداما، ويعود السبب في أهمية هذه الغزوة إلى حجم الانتصارات التي حققها المسلمون فيها بقيادة الرسول، وإلى التأثير الإيجابي الذي خلفته في نفوس المسلمين من جانب آخر، إذ رفعت معنوياتهم وزادت من إيمانهم، وهزمت كيان العدو وأضعفت عزيمته وغيرت وجهة نظره تجاه المسلمين، إذ صاروا بعدها ينظرون إليهم على أنهم قوة لا يستهان بها.
وفي كل رمضان يكون المسلمون على موعد مع تلك الذكرى الغالية على قلوبهم يستلهمون منها الدروس والعبر ويجددون بها الإيمان في قلوبهم، ويشحذون بها الهمم والعزائم بما تجسده من صورة الاصطفاف الشعبي خلف القائد، ودروس الصبر والثبات عند الأزمات، والجهاد لإعلاء كلمة الله و بذل النفس والنفيس لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وستظل غزوة بدر الكبرى بما تؤكده من حسن التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، وترسيخ مبدأ الشورى في الرأي والديمقراطية بأفضل صورها، ستظل معلما عريقا ودستورا منيرا للدعاة والمصلحين والمجاهدين في معاركهم مع الباطل، وستبقى مرجعا مهما لصورة العلاقة بين القائد وجنده، ودروسا في الجندية والطاعة والوحدة والتنظيم والجماعة، وسيظل الدرس الأكبر فيها هو انتصار فئة قليلة العدد على فئة كثيرة لاستهدافها إرساء كلمة التوحيد وإعلاء كلمة الحق.
وتتجدد الذكريات بهذا النصر المبين في تاريخ الإسلام وفي جهاد المسلمين في كل عام في رمضان شهر الانتصارات، ففيه بدر وغيرها، وفيه أيضا معركة يخوضها المسلم مع نفسه كل يوم وجهاد النفس أعظم أنواع الجهاد، فالاحتفال بذكرى غزوة بدر ليس مناسبة للتغني بأمجاد الماضي، لكنها مدرسة تلقى في حلبتها الصحابة، والأجيال المؤمنة من بعدهم دروسا في المنهج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، تربية تشددت على ضرورة تمسكهم بالمواقف لطلب حقهم وإثبات وجودهم والتعبير عن دعوتهم والجهر بها ، حيث ترسخ الهدف من هذه الغزوة في البحث عن الخلاص الجماعي للأمة بتحقيق العدل، بما يعنيه العدل من استرجاع المستضعفين لحقوقهم المسلوبة كاملة من أمن وحرية وكرامة وإنصاف، وبما يعنيه من تمكين لدين الله عز وجل في الأرض ورفع رايته.
ومن أبرز ما جاءت به غزوة بدر في شقها التنظيمي، هو تعليم الأمة أن أمر الشورى ليس ترفا وإنما ضرورة خاصة في المواقف الحاسمة للأمة، وأنه مبدأ من مبادئ الشريعة وأصلا من أصول الحكم، وأساسا لبناء تنظيم منسجم متعاون يجسد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي، بما يخدم المصلحة العامة ، فقد سجلت تلك الغزوة مشهدا تنظيميا خالدا، وإجماعا لعزائم القلوب والإرادات على حد سواء، وهكذا التقت رحمة القيادة، مع المحبة والثقة والوفاء، لتجتمع في قالب شوري، فتكون الطاعة للقائد أمرا تلقائيا، وليست مجرد انضباط عسكري جاف.
وتلقن غزوة بدر المسلمين روحانية عالية، وأصلا تربويا يتمثل في الصبر ومعنى حسن التوكل على الله، واللجوء إليه والإيواء إلى ركنه الشديد وكثرة ذكره في مواطن الجهاد والبذل والعطاء وفى جميع الأوقات، والعمل بالعلم والحرص على معرفة إمكانيات العدو والوقوف على أهدافه ومقاصده واستطلاع خطوطه، مما يعين على رسم الخطط الحربية المناسبة لمجابهته وصد عدوانه، وتطبيق مبدأ الكتمان في الحروب، إلى جانب إتقان العمل، وبعد ذلك فقط يأتي تأييد الله لعباده المجاهدين بالغيب .