تبحر رواية "هم"للروائي
اليمني وليد دماج في عالم غامض، نراه أمام أعيننا ولكنه بعيد عن الادراك والفهم. إنه عالم الجنون الذي يحاول الروائي
استكشافه من داخله، وبلسان المجنون ذاته، فترى ما يراه المجنون وتفسر الأشياء بحسب
ما يفسره أصحاب ذلك العالم المتسع والمتوحد في الوقت ذاته، لذا فالرواية تشكل
محاولة لفك المستغلق وإبحار في النفس الإنسانية كمحاولة للإسهام في فك بعض طلاسم
هذا الكائن المعقد المسمى بالإنسان.
"رواية هم" ليست رواية دماج الملغزة والتي تسعى
لاستكشاف عالم صعب ومعقد، فروايته الأولى أيضا "ظلال الجفر" التي حققت
حضورا قويا في المشهد الروائي اليمني والعربي، قدمت عالما أكثر صعوبة وهو عالم
الصوفية وتجليات دروبها ومسالكها..
وحول رحلته
الإبداعية والمؤثرات التي أحاطت بها، كان لبوابة "دار الهلال" هذا
اللقاء مع الروائي وليد دماج.
** بداية حدثنا
عن سنوات التكوين الأولى، القراءات الأولى، دور المحيط الأسري في توجيهك نحو
القراءة؟.
** نشأت في أسرة
يمكن القول أنها محبة للأدب والثقافة، منفتحة علی الإبداع بشتی أنواعه وتجلیاته. كل
بیت من بیوتنا به مكتبة زاخرة بالمصنفات والكتب، بالاضافة ـ وهو الأهم ـ لوجود آباء
لنا رواد في الأدب اليمني؛ أحمد قاسم دماج الشاعر والتنويري الكبير ورٸيس إتحاد
الأدباء والكتاب الیمنیین لفترة طويلة، والقاص والرواٸي زيد مطیع دماح صاحب رواية "الرهینة"
المشهورة. والدی رحمه الله كان ریاضیا وسیاسیا ینتمی للحزب الأشتراكی الممنوع فی
شمال الوطن ثمانینات القرن المنصرم، وكان یضطر خشیة الاعتقال لأن یخبئكتبه فی غرفة
ملحقة بسقف المنزل الذی كنا نقطن فیه فی مدینة عمران، حینما كان والدی مدیرا لفرع
البنك الیمنی هناك. كنت أصعد لتلك الغرفة وأظل أقرأ قصص الأطفال والروایات ودواوين
شعر وكتب التاریخ والتراث، ناسیا نفسی هناك ولا أنزل إلا بعد الحاح من أمي.كنت آنذاك
فی الصف الخامس الابتداٸي حيث بدأت رحلتی مع القراءة.
** بدأت شاعراً
وبعض المطلعين على تجربتك الشعرية يؤكدون على تميزها. مالذي جعلك تتخلى عنها وتتجه
للرواية؟
** ربما لأن
الشعر یتماشی مع فترة الشباب، ولكني أدركالآن أن الشعر المرحلة الأهم من مراحل إبداعي الأدبی؛ وهي
التي قادتني لاقتحام عالم الرواية الذي برأيي يمثل كمال الإبداع. أظنني خُلقت
للرواية ووحدت نفسی بها.
** في روايتك "ظلال
الجفر" يتكشف السرد عن عالم صوفي ثري، كيف هي تجربتك مع التصوف؟
** التصوف سلوك
نقي وشغف بالجمال.. أن تعيش حياتك بكامل
إرادتك فأنت متصوفا. قرأت الكثير من كتب التصوف حتى الفتوحات المكية لمحي الدين بن
عربي،والفتوح المصونة والأسرار المخزونة لابن علوان. وقد انغمست في الكثير من الطرق،ورقصت كابن
الرومي كالسهروردي والجيلاني والفقيه بن عجلان والعبد. قرأت شعر البرعي والبدوي
وابن الفارض والسودي والمقالح ونبيل السروري والسياب وابن الفارض وعبد الهادي
السودي وجابر رزق، ولكنني لم أجد طريقي ولا طريقتي إلا بالابتعاد. ولأتخلص وأخلص لم أجد سوى رواية أفرغ فيها
وأفني كل ذلك السحرفكانت "ظلال الجفر".
لاشيء يمحو السحر سوى الكتابة، فالكتابة خلاص والرواية اكتمال. تهت أكثر فكان الجنون والجتون هيام ولأتحرر
كتبت رواية "هم" بعد أن درت في الطرقات والأزقة والمصحات ألاحق من يسمون
بالمجانين، لأجد أني كنت ألاحق نفسي، فتنفست حينها برواية "هم"، التصوف
ألم لا يقوى عليه إلا الأشداء ولست منهم.
** هل كنت وأنت
تتماهى في عوالم رواية "ظلال الجفر" المبهمة تتقصد اعادة الاعتبار لهذا
العنصر الذي كان جزءاً مهما في ثقافة اليمنيين،بحكم الهوية الصوفيةالتي تتمدد على
معظم الجغرافيا اليمنية؟
** الظلال
هويتنا الخالصة، اكتمال المناجاة حين نضل الطريق.
ألسنا في حقيقتنا مجرد ظلال؟ أليست الحياة بأكملها مجرد ظلال؟ أليست حياة
اليمنيين على الهامش كل هذا المدى تشبه بالظلال.
لم نعد نشعر بشيء ولم يعد يدهشنا شيء وفقدنا في أتون ما يحصل كل ما كان
لنا. أليس ذلك تشبها بالظلال التي ليست
سوى انعكاس لشيء طارئ وغير حقيقي: الضوء؟ الظلال تتشظى وتلتئم أليس هذا ما نحن
عليه؟ الكتابة خلق في بحر من ظلال.
** واضح من عملك
الأخير "هم" ميلك إلى تأويل السرد إلى مغامرة حقيقة من خلال الغوص في
مبهمات كبرى، هل هذا مشروع مستمر، بمعنى هل هو جزء من طبيعتك السردية أم إنه مرحلة
مؤقتة؟
** الكتابة
المباشرة ليست أدباً. الأدب يحترف التأويل. كل تجربة لي تتخلق في أوانها وتخلق
أسلوبها أيضا. لا أعرف أسلوبا معينا
للكتابة ولا أمتلك طريقة. فقط تقودني الرؤى وتدفق الأفكار والشغف في اجتراح شيء
خلاق ومختلف ومغاير. "هم" رواية خلقها التحليق في عالم السحر والجنون أو
هذا ما حاولت. والأعمال تخلق نفسها حتما بالطريقة التي تشاءها.
** ما هو القادم
في مشروعك السردي؟
** لدي عملين
جاهزين للطباعة. الأول اسمه "وقش" وهو عمل تاريخي فلسفي يحكي حياة
وأفكار وفلسفة ومأساة فرقة المطرفية الني أبيدت في غفلة من تاريخ اليمن المثخن
بالجراح والمآسي. والثاني اسمه مؤقتا "أبو صهيب العزي" وهي رواية عن
المفترق والمختلف الذي يحصل في أواننا. وأعكف
الآن على كتابة عمل جديد إذا شاء لي العمر أن أكمله.
** كيف ترى
المشهد الثقافي اليمني من واقع مسؤوليتك كقيادي في وزارة الثقافة اليمنية، ومن
واقع كونك جزءاً من هذا المشهد ككاتب أيضا؟
** أنا بحكم
عملي السابق الطويل في وزارة الثقافة كنت أرى اليمن تشهد ثورة ثقافية مكتملة. المشهد الشعري في ذروته والفن التشكيلي يتفوق
على نفسه، أما السردي فحدث ولا حرج. الحرب
ربما ظللت المشهد وأفقدته رونقه. ولكن اليمن معتادة على تجاوز الألم والتفوق على
آلامها، واستعادة تألقها. حاولت خلال عملي كمسئول في صندوق التراث والتنمية الثقافية
ومن قبلها كرئيس للمكتب التنفيذي بصنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004م أن أصنع شيئا
فارقا وأن أجمع بين الإبداع والإدارة، ولكنني أرى الآن إنهما لا يجتمعان.